جريدة الجرائد

مذكرات جاك شيراك: جولتي الشرق أوسطية هدفها سوريا وإسرائيل

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الحلقة الأولى والثانية

باريس ــ القبسصدر الجزء الثاني من مذكرات الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك تحت عنوان "الزمن الرئاسي" وتنشره دار "نيل" ويقع في 607 صفحات تختزل أكثرمن عقد من الزمن.وتتحــــــدث عــــن المراحــــــل التي عايشها شيراك في قلب مـركـــــز الـقـــــــرار وأحــيــانا في قـــلــــــب صناعته.تنشر الاقسام المتعلقة بالشرق الأوسط وتهم القارئ العربي، مثل العلاقة بين عرفات وشيراك، وكذلك العلاقة مع حافظ الأسد، وقول الاخير للرئيس الفرنسي "إن بشار مثل ابنك"، مرورا بالحرب الاميركية ضد العراق وتصدي شيراك لها، وصولا إلى اغتيال الحريري.مما جاء في كتاب شيراك: في العشرين من أكتوبر 1996، طرت إلى دمشق، المحطة الأولى في جولة شرق أوسطية قادتني على التوالي إلى إسرائيل، والأراضي الفلسطينية، والأردن، ولبنان ومصر.نادرا ما تم التحضير لزيارات رسمية بدقة كما جرى التحضير لهذه الجولة، نظرا للأجواء المتوترة في هذه المنطقة من العالم. والكثير من الحساسية المتنوعة والمنتشرة هنا وهناك ومن الواجب مراعاتها.هذه الجولة الهادفة التي تثبت عودة فرنسا إلى المنطقة كانت تستجيب لطموحي في إعادة الثقة للعلاقات مع إسرائيل من ناحية، وإطلاق سياستنا العربية والمتوسطية وفقاًَ للتوجهات الأساسية التي حددتها في خطابي في القاهرة في نيسان /أبريل من العام ذاته من ناحية أخرى. طموحات من الصعب التوفيق بينها، بكل تأكيد، ولكن تظهر بوضوح المهمة المحددة الموكلة إلينا تجاه شعوب فرقتها عقود من الأحقاد والعنف. إذا كانت فرنسا تتمتع برصيد لدى معظم الدول العربية، فإن علاقات الصداقة مع إسرائيل لم تكف عن التراجع.مع رابينوهذا الانطباع الذي تولد لدي في حزيران/ يونيو 1995 بعيد انتخابي خلال غداء عمل في الإليزيه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، والمشهور بأنه محاور صعب، وهو لم يخف شكوكه حول فرنسا وأوروبا، وكان ينظر دائماً إلى الملاحظات أو الانتقادات التي توجه إلى إسرائيل على أنها دعم لمواقف خصومها. وكان رابين يفضل الدبلوماسية الأميركية لمواكبة عملية السلام التي بدأت منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو، مع أن فرنسا كانت أكبر ممول لتكاليف إدارة السلطة الفلسطينية.غياب وزير يهوديوبقيت الصورة المكونة عني في إسرائيل بأنني سليل الديغولية، وتقارن بموقف الجنرال ديغول عام 1967 المنتقد لإسرائيل، بعد بدئها حرب الأيام الستة، حتى إن السلطات الإسرائيلية أشارت، بعد تكليفي آلان جوبيه بتشكيل الحكومة، إلى أنها المرة الأولى التي تشكل فيها حكومة فرنسية لا تضم وزراء يهوداً. وهذه المسألة لم أعرها أي اهتمام، ولكنها كانت كافية لتغذية الحذر مني في إسرائيل.أما بالنسبة لي، فلقد شرحت لإسحاق رابين دعمي الكامل لسياسة السلام الشجاعة التي ينتهجها مع الفلسطينيين، والتي يعارضها قسم متصاعد من الرأي العام الإسرائيلي، وأكدت له أنني أشاطره الرأي بعدم وجود بديل عقلاني للمفاوضات.رابين المتشدد ذو قلب كبيرخلف الشخصية المتحفظة والمتشددة لرابين، بدا لي أنه صاحب قلب كبير، وفي الوقت نفسه خادم واع لمصالح دولة إسرائيل، ومصمم على الذهاب إلى نهاية عملية التسوية، التي بدأها، ايا كان الثمن.اغتيال رابينوقد تأثرت جداً عندما علمت بخبر اغتياله وقررت فوراً المشاركة في تشييعه في السادس من نوفمبر 1995 في جبل هرتزل بعد ان وقع ضحية تطرف بعض مواطنيه، على غرار انور السادات قبل خمسة عشر عاماً.وخلال التأبين، وامام الحشود المتأثرة والمتألمة والمفجوعة، تحدثت لاحيي ذاكرة رجل الدولة الذي دفع حياته ثمن مثله الاعلى، ووجهت للشعب الاسرائيلي رسالة صداقة وتضامن وأمل وثقة.حلم بيريسوكان لدي الثقة الكاملة باختيار صديقي شيمون بيريس خلفا له على رأس الحكومة الاسرائيلية، فهو رمز رائع للعدالة والتسامح.فانا اعلم ان العيش سوياً يعني بالنسبة لشيمون بيريس الاعتراف بالآخر، واحترامه والتحدث اليه. وان بناء عالم افضل يتطلب بناء تاريخ مشترك.وحلم شيمون بيريس ليس خيالياً ولكنه حلم دولة اسرائيل تعيش بسلام وامن الى جانب جيرانها الذين هم بدورهم يعيشون بحرية وكرامة في دولتهم المستقلة.اتفاق طاباوتحقق تقدم حقيقي منذ الاتفاق الاسرائيلي - الفلسطيني في طابا في ايلول سبتمبر 1995 في هذا الاتجاه، ولكن الارادة الحسنة التي كان يبديها الطرفان سرعان ما تلطخت بتصاعد اطلاق النار في جنوب لبنان بين اسرائيل وحزب الله الذي تؤثر عليه سوريا بكل تأكيد.في الثالث من مارس حصل اعتداء انتحاري، هو الاول في سلسلة طويلة من الاعتداءات، ضد حافلة ركاب في القدس، ادى الى مقتل ثمانية عشر شخصاً.في اليوم الثاني اتصلت بيريس لاعبر له عن تضامن فرنسا في مواجهة هذه المحنة، وقال رئيس الوزراء الاسرائيلي ان الاعتداء يشكل مأساة حقيقية لبلده يمكن ان يسيء لعملية السلام، التي تدعمها حكومته بشكل جدي ودائم.وكان موقفه قاسيا تجاه ياسر عرفات، الذي برأيه تحرك قليلا ومتأخرا. لتجنب مثل هذه الاعمال. لان مرتكب الاعتداء من دون ادنى شك جاء من اراضي الحكم الذاتي.واعتبر بيريس ان ياسر عرفات لم يتخذ في الوقت الملائم التدابير اللازمة لضبط الاراضي الفلسطينية. وهذه المسألة الوحيدة التي طلبت منه ليس من اسرائيل فقط، ولكن من مصر والاردن ايضا.واقترحت على بيريس ان اتصل برئيس السلطة الفلسطينية، لأحثه على اظهار صرامة اكبر، وهو ايضا ضحية الارهاب. وقد شجعني بيريس على ذلك، قائلا "ان مثل هذا التحرك سيكون اكثر اهمية اذا ما صدر منك".عرفات يريد دائماً المزيدكنت امله الكبير، وفي قرارة نفسي، حتى وان كانت لدي علاقات جيدة مع ياسر عرفات، الذي يريد ان ينظر اليه المسؤولون الاسرائيليون كشريك يوثق به، لانه اثبت عدم قدرته على الاقدام على ما اسميه "المبادرة الاخيرة" او الخطوة الاخيرة.في محافظة الكوريز عندما يبدأ البائع والمشتري في الاسواق المفاوضات حول سعر رأس الغنم، فان المفاوضات يمكن ان تستمر الى ما لا نهاية. ولكن ما يلبثان ان يتفقا حتى يتصافحا. واعتبارا من هذه اللحظة، فان الامور تكون قد سويت.وهما ليسا بحاجة الى التوقيع على ورقة ما طالما انهما متأكدان من ان المبلغ المتفق عليه سيدفع.نقطة ضعف عرفات الكبيرة انه كان دائما يريد الحصول على المزيد بعد التوصل الى الاتفاق.وغالبا ما قلت له انك لا تعرف المصافحة (ضرب اليد باليد) انك تريد دائما الحصول على المزيد.الرجل ذكي، ونذر حياته للدفاع عن شعبه. وهو محترم على اكثر من صعيد.ولكنه بطبيعته العميقة لا يعرف كيف يضع حلا لنقاش او لمطلب. وكان يعود دائما للمطالبة باكثر مما حصل عليه. وبالنسبة له المكتسبات دائما غير كافية.الاسرائيليون لديهم فكرة واضحة ومحددة حول ما يريدون ونادرا ما يغيرون مواقفهم، وهذا ما كان يجعل الحوار مع عرفات صعبا وشبه مستحيل. وكان يمنع الاسرائيليين من الثقة الكاملة به.لياسر عرفات اسبابه الخاصة، وكان محقا ببقائه حذرا من محاوريه الذين كانوا دائما يبالغون بتصلبهم.عودة النفوذ الفرنسيإلى الشرق الأوسطفي الحادي عشر في أبريل - نيسان اطلقت اسرائيل، التي ضاقت ذرعا بغارات حزب الله المتكررة، عملية "عناقيد الغضب" ضد مواقع الحركة الشيعية في جنوب لبنان. وذلك قبل خمسة أسابيع من الانتخابات العامة في اسرائيل.شيمون بيريس أراد إثبات انه يعرف استخدام كل الوسائل لضمان أمن بلاده. ولكن عرض العضلات هذا انتهى في قانا بمجزرة راح ضحيتها أكثر من مائة مدني لبناني قتلوا في مخيم للأمم المتحدة بقذائف اسرائيل.وقد تأثرت بشكل خاص بهذه المأساة التي اثارت المشاعر في العالم أجمع. وقد عملت فرنسا بكل قوتها من أجل الحصول على وقف لاطلاق النار في بلد، حيث حصلت مأساة قانا تربطها فيه روابط الاخوة منذ زمن بعيد.وفي الرابع عشر من ابريل، وبعد ان استقبلت رئيس الوزراء اللبنانبي رفيق الحريري قررت ارسال وزير الخارجية ميرنيه دو شاربت لمحاولة وضع حد للعداوات.وكما اسلفت، فإن الولايات المتحدة لم تنظر بعين الرضا للتدخل الفرنسي، فواشنطن ترى ان وساطتنا تشوش على التحرك الدبلوماسي الأميركي حيال السلطة السورية، ولكن في الواقع السلطة السورية تفضل الحكومة الفرنسية كمحاور، كما استنتج لاحقا وارين كريستوفر وزير الخارجية الأميركية الذي وصل في الوقت ذاته الى المنطقة.وخلال اللقاء الذي جرى بين وزيري الخارجية الأميركي والفرنسي في دمشق واتسم بالحدة، قال كريستوفر لدو شاريت ان تل أبيب وواشنطن ليستا بحاجة الى فرنسا لتسوية هذا النزاع، ويجب الا ننسى ان مأساة قانا قد اساءت كثيرا لصورة اسرائيل لدى الرأي العام العالمي وأيضا للأميركيين في العالم العربي. والحضور الفرنسي تعزز في المنطقة وتدخل بلدنا أصبح لا بد منه للتوصل الى وقف لاطلاق النار في السابع والعشرين من ابريل تحت مراقبة لجنة تضم فرنسا والولايات المتحدة على قدم المساواة.حليف للبنانفرنسا، التي فرضت نفسها كأفضل حليف للبنان وعززت علاقاتها مع سوريا، تمكنت من استعادة جزء كبير من نفوذها في المنطقة، من دون ان يكون ذلك على حساب اسرائيل، والدليل على ذلك رسالة العرفان التي بعثها لي شيمون بيريس في 5 يونيو قبل ان يسلم السلطة الى منافسه في الليكود بنيامين نتانياهو: "انن تعاوننا كان مهما جدا، وأرغب في التعبير عن بالغ تقديري للجهود الشخصية التي بذلتوها لتحقيق التقدم المهم لمصلحة السلام في منطقة الشرق الأوسط، ان صداقتكم كانت في الحقيقة لا يمكن تقييمها".نتانياهو يفضل سياسة الأمر الواقعان موقف خلفه كان أبعد من أن يكون عطوفا، بنيامين نتانياهو كان يحرص على احاطة نواياه الحقيقية بالغموض. وبدا في خطابه لنيل الثقة، الذي دعا فيه الى مفاوضات من دون شروط مسبقة، انه ينبئ بحسن الطالع، ولكن سرعان ما أعلن رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد انه يؤيد توسيع المستوطنات وشكلت حكومته على قاعدة رفض الدولة الفلسطينية، ورفض الانسحاب من الجولان ورفض أي تقاسم للسيادة على القدس.جولة في المنطقةعندما بدأت أعد في اكتوبر لزيارة اسرائيل ومعظم دول المنطقة كان الوضع فيها غير قابل للاحتمال. والتقدم الهائل الذي أحرز بين الاسرائيليين والفلسطينيين منذ التوقيع على اتفاقات اوسلو وطابا كان يبدو مهددا، وانتخاب بنيامين نتانياهو ادى الى تلبد الأجواء أكثر فأكثر بسبب إغلاق الأراضي ردا على اعتداءات متكررة ومنتظرة من حماس في اسرائيل. كان يجب الانتظار لمدة ثلاثة اشهر لكي يوافق خلف بيريس في الرابع من سبتمبر على مصافحة ياسر عرفات. وكان يدعي انه يريد احترام الاتفاقات الموقعة. ولم يقدم على أي مبادرة لتأكيد حسن النوايا التي أعلن عنها.الفلسطينيون اعترفوا ولم يحصلوا على شيءصدر الجزء الثاني من مذكرات الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك تحت عنوان "الزمن الرئاسي" وتنشره دار "نيل" ويقع في 607 صفحات تختزل أكثرمن عقد من الزمن.وتتحــــــدث عــــن المراحــــــل التي عايشها شيراك في قلب مـركـــــز الـقـــــــرار وأحــيــانا في قـــلــــــب صناعته.تنشر الاقسام المتعلقة بالشرق الأوسط وتهم القارئ العربي، مثل العلاقة بين عرفات وشيراك، وكذلك العلاقة مع حافظ الأسد، وقول الاخير للرئيس الفرنسي "إن بشار مثل ابنك"، مرورا بالحرب الاميركية ضد العراق وتصدي شيراك لها، وصولا إلى اغتيال الحريري.رئيس الوزراء الجديد لم يكن يفضل سوى سياسة الأمر الواقع، وفي الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر فجر نفقا تحت المسجد الأقصى في المدينة القديمة في القدس وحصلت مواجهات عنيفة مع الفلسطينيين.هذا الانفجار ترجم تصاعد الغضب والسخط لدى السكان الذين وافقوا على الاعتراف بعدو الأمس، تكون لديهم الانطباع المذل بانه لم يحصلوا على شيء بالمقابل، والى جانب خيبات الأمل السياسية أضيفت الصعوبات الاقتصادية التي زادها اقفال الأراضي الفلسطينية حيث يعاني نصف السكان البطالة وحيث تزداد الظروف المعيشية سوءا يوما بعد يوم. ومنع التنقل وصل الى درجة حتى ان سيارات الاسعاف التي تنقل الجرحى، خلال احداث سبتمبر، التي منعت من عبور الحواجز.دور فرنسيوسط هذه الاجواء لم يمكن امام فرنسا خيار سوى دعوة اسرائيل الى احترام الاتفاقات الدولية التي وافق عليها الكينست - اتفاقات يجب ان تؤدي الى ولادة دولة فلسطينية - ودعوة عرفات والفلسطينيين لمواصلة العمل لتحقيق الهدف الوحيد لذلك وهو مواصلة المفاوضات والسلام.وبعد لقائنا في باريس في الرابع من اكتوبر اعرب زعيم السلطة الفلسطينية عن امله في ان تشارك اوروبا وفرنسا باطلاق المباحثات.لكن هذا الطلب اصطدم برفض الحكومة الاسرائيلية التي تريد ان تحصر فرنسا بمهمة لعب دور الوساطة مع الدول العربية.الإسرائيليون يأخذونعلى باريس علاقاتها مع سورياوفيما يأخذ المسؤولون الاسرائيليون على فرنسا دعمها للفلسطنيين وعلاقاتها مع سوريا والعلاقات المدنية مع دول مثل العراق وايران، فانهم لم يترددوا بالطلب منا ان ننقل الرسائل الى بعض هؤلاء المحاورين من الذين يعتبرون انه لا يمكن الاتصال بهم، وبدت الحكومة الاسرائيلية الجديدة غير مستعدة للقبول بالدور الفرنسي خاصة ان باريس تطالب بالبحث عن اتفاق مع سوريا، التي تعتبرها لاعبا اساسيا في عملية السلام.لماذا دمشق محطة أولى؟ولم يكن اختياري لدمشق كمحطة اولى في جولتي الشرق اوسطية من باب الصدفة، حتى ولو ادى ذلك الى ازعاج السلطات الاسرائيلية.فالبنسبة لي ان الامر لا يهدف فقط للتأكيد على عودة العلاقات الفرنسية - السورية. ولكنه يهدف ايضا لمساعدة سوريا على الخروج من العزلة للتشجيع على الحوار مع اسرائيل ولتخفيف القبضة السورية عن لبنان.تحسن العلاقات مع دمشق ودور الحريرياطلاق التبادل مع دمشق بدأه آلان جوبيه منذ وصوله الى الخارجية الفرنسيين عام 1993.في ذلك الوقت كان الخلاف قويا مع سوريا منذ اغتيال السفير الفرنسي في لبنان لويس دولامار في سبتمبر 1981، وما تلاه من اعتداءات ارهابية لا يُشك بالجهة التي تقف وراءها.بحصوله على موافقة الرئيس السوري حافظ الأسد على المشاركة، إلى جانب إسرائيل في مؤتمر برشلونة عام 1995، الهادف إلى إطلاق شراكة حقيقية أورو - متوسطية. مكن آلان جوبيه الدبلوماسية الفرنسية من تحقيق منعطف، أعتقد أنه لا بد من توجيه التحية إليه.صديقي الحريريوخلال الحوارات العديدة التي أجريتها مع صديقي رفيق الحريري، حول هذا الموضوع، تمكن من إقناعي بأنه من الخطأ الربط بين تحسين علاقتنا بسوريا وانسحاب القوات السورية من لبنان. وبالنسبة له يجب القيام بالعكس. في البداية يجب إقامة علاقات قوية مع دمشق، وهذا يتطلب مسبقاً رفع بعض الحواجز بين بلدينا، مثل تسوية مشكلة الديون السورية لفرنسا، والتي توقفت دمشق عن تسديدها في نهاية الثمانينات، وبعد وصولي إلى قصر الإليزيه كلفت سكرتير الدولة للشؤون المالية هيرفيه غيمار، الذي يعرف الشرق الأوسط جيداً، بالتفاوض بكتمان تام للتوصل إلى اتفاق مع السلطات السورية حول هذا الموضوع. وكان عليه التحلي بالصبر لمدة 15 شهراً تخللتها زيارات عدة إلى دمشق، ومفاوضات طويلة، ومبعوثين، ولقاءات طويلة مع الرئيس حافظ الأسد، الخبير في إخضاع محاوريه لعامل الوقت، للتوصل إلى اتفاق، كاد يطاح به عشية زيارتي الرسمية إلى دمشق في أكتوبر / تشرين الأول 1996. سخط هيرفيه غيمار، الذي حدد موقف المفاوضات، إذا ما احتج الجانب السوري على الاتفاق سمح بإزالة سوء الفهم قبل مغادرتنا، وتتخلى فرنسا بموجب هذا الاتفاق عن %60 من ديونها لتشجيع النمو الاقتصادي لبلد عانى في السنوات الأخيرة من الاكتفاء الاقتصادي الذاتي، والأهم في الاتفاق هو أن ألمانيا وافقت، وبعد أن أقنعناها، على تقاسم هذا الجهد معنا، علماً أن الديون السورية لألمانيا أكبر من ديون دمشق لباريس.اللقاء مع الأسدالأحد في العشرين من أكتوبر، حافظ الأسد كان في استقبالي في مطار دمشق، جسم نحيف، زاهد، وتكاوين هزيلة، النظرات ثاقبة، تنم عن قساوة تمتطر ستاً وعشرين سنة في السلطة المطلقة. الرجل ليس حاراً (ودوداً). وبدت أي حركة منه مسبوقة بحساب دقيق، ودرس مطول. هذا السفينكس (كائن خرافي في الميثولوجيا الأغريقية له جسم أسد ورأس وصدر امرأة وأجنحة أو تمثال أبو الهول). يعيش قبل كل شيء في الظل والكتمان.نادرا ما يسافر او يظهر علنا. يتصل شخصيا بمساعديه، الممنوعين من الاتصال المباشر به. والغموض الذي يحيط به، الناتج عن الخوف والرعب منه الذي نجح بإحاطة نفسه به، سمح لحافظ الاسد ان يحكم شعبه حكما مطلقا، علما بان العلويين، الذين ينتمي اليهم، بالكاد يمثلون عشرة في المائة من السكان.يُقال ان صحته منتكسة. وبدا لي بالفعل انه ضعيف جسديا. ولكنني لم اشعر انه فقد من سلطته على ادارة شؤون البلاد ولا من ارادته لتأكيد الطموحات الاقليمية لسوريا.وعلى الرغم من البرود، الذي يستخدمه كدرع لحماية نفسه، وعلى الرغم من الجو الضاغط المحيط به، استقبلني حافظ الاسد بود، وكان حريصا على الاجراءات التي تسمح بإقامة علاقة ثقة بيننا. لقد اقام في القصر الرئاسي عشاء فاخرا على شرف الوفد الفرنسي ليلة وصولي، حيث منحني وسام الامويين الكبير. وفي اليوم التالي اجرينا جولة طويلة من المباحثات المنفردة استغرقت عدة ساعات. وكانت المباحثات "مُزخرفة" بحوار طويل من جانب واحد اعتاد حافظ الاسد على القائه بصوت رتيب لا يترك مجالا للتعبير عن اي شعور محدد او خاص.الأسد قلق من نتانياهو حافظ الاسد عبر عن قلقه وسخطه في الوقت ذاته من التحول الذي طرأ على السياسة الاسرائيلية منذ وصول بنيامين نتانياهو الى السلطة، "من الضروري- قال لي- الارتكاز الى قرارات مجلس الامن الدولي والاستناد الى مبدأ الارض مقابل السلام. ان الوضع الجديد يدعونا الى الاعتقاد ان اسرائيل راغبة بنسف هذه الاسس. وهذا تحدٍ للأسرة الدولية. الاتحاد الاوروبي، الولايات المتحدة والدول العربية تدعم اسس عملية السلام وتأمل بأن تتواصل لتحقيق اهدافها. ان السيّد نتانياهو يريد التراجع عن كل ذلك. ولن ينتج عن هذا سوى الدمار والمآسي والدعم في العالم اجمع".أكدت للأسد أنّ فرنسا ترغب برؤية استئناف عملية السلام بمجملها من دون اي استثناء، وبأن تلعب دورا في هذا المجال بطريقة توازن وزن الولايات المتحدة وحلفائها. "ان فرنسا يمكن ان تكون نوعا من العراب" قلت لحافظ الاسد، الذي بدا انه غير منزعج من الصيغة.وبالنسبة لإعادة الأراضي التي جعلت منها دمشق المبدأ لسلام دائم، بدأت بالتذكير بأن فرنسا تعتبر أن السيادة السورية على الجولان الذي تحتله إسرائيل غير قابلة للنقاش. وأضفت أن هذا الأمر ينطبق على لبنان، الذي يجب أن يكون سيداً على كل أراضيه. وهذا يعني إذا كانت فرنسا تطالب، تماشياً مع مطالب الشرعية الدولية، بالانسحاب الإسرائيلي غير المشروط من جنوب لبنان، فإن استعادة لبنان لسيادته ووحدة أراضيه يتطلب أيضاً، على المدى البعيد، مغادرة القوات السورية للبنان. حافظ الأسد أجابني قائلاً: إنه يؤيد الاستقلال الكامل للبنان، ويؤيد التنوع فيه لكي تتمكن كل الطوائف من الاندماج في اللعبة السياسية، وكان يشدد "على أن الاستقرار في لبنان يمر بالمصالحة الوطنية"، وكأنه يريد تحذيري، ولكن كيف لي أن أشكك؟ وإن شيئاً من هذا القبيل لن يحصل من دون موافقة سوريا. لقد غادرت دمشق متجهاً إلى تل أبيب بعد ظهر 21 أكتوبر، كان الليل قد حل عندما حطت طائرتنا في مطار بن غوريون. وكان علينا الانتظار دقائق عدة قبل أن نتمكن من مغادرة الطائرة. ومن نافذة الطائرة لمحت العبوث على وجه مسؤولة البروتوكول الإسرائيلي التي كانت ضمن الوفد الرسمي الإسرائيلي الذي ينتظر عند سلم الطائرة. وقلت لأعضاء الوفد الفرنسي "إن هذه المرأة تكرهنا، وعندما أنزل من الطائرة سأقبلها". الحكومة الإسرائيلية اغتاظت لأنني قررت أن أبدأ جولتي من دمشق، فأرسلت فقط وزير الخارجية لاستقبالنا.استياء عميقالعشاء الرسمي الذي تلى وصولنا وأقيم في القصر الرئاسي في القدس بحضور رئيس الدولة عازار وايزمن، ورئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، تم في أجواء مريحة، حيث احتفلنا بعيد ميلاد رئيس الوزراء السابع والأربعين، ولكن نظرات بعض مضيفينا، خصوصاً رئيس الكنيست كانت تعكس الاستياء العميق في السياسة العربية لفرنسا، ومن تأكيد الدعم الفرنسي للقضية الفلسطينية. كان يتعين علينا أن نحل أول مشكل قبل وصولنا، وهو يتعلق "ببيت الشرق" المقر غير الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية .لقد اعتاد وزراء الخارجية الفرنسيون خلال زياراتهم، على غرار معظم زملائهم الاوروبيين، زيارة بيت الشرق، وذلك علىالرغم من الضغوط الاسرائيلية لمنعهم، وهذه الضغوط قد زادت بعد تغيير رئيس الوزراء، الذي اوضح لنا صراحة بعيد وصوله الى السلطة ان الزوار الاجانب الذين يصرون على زيارة بيت الشرق عليهم ان يتخلوا عن زيارة اسرائيل، وامام مخاطر احتمال اقفال بيت الشرق نهائيا على حساب الفلسطينيين طلبت من وزير الخارجية هيرفيه دوشاريت عدم مرافقتي الى تل ابيب، اي بكلام آخر، اخترت حيال مضيفينا الحل الاقل استفزازا دون أن أظهر تنازلا امام مطالبهم، وقام هيرفيه غيمار، الذي اصبح سكرتير دولة للشؤون الصحية، بزيارة بيت الشرق.حادث القدسهذا التنازل لا يغير شيئا بالطبع في الموقف الفرنسي او الاوروبي في وضع القدس، الذي يجب ان يأخذ بالاعتبار المطالب الفلسطينية، وهو يترجم عمليا بعدم الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لاسرائيل، ولكن يجب تجنب الحديث عن عاصمة اسرائيل. وعبارة حكومة تل ابيب ممنوعة من الاستخدام لكي لا يثور الرأي العام والحكومة الاسرائيليين، كما انه من المستحسن عدم التحدث عن فلسطين الا في المستقبل، لانه لا يوجد حتى الآن فلسطين مستقلة، كما انه يجب عدم الحديث عن المستوطنات الاسرائيلية ولكن المراكز السكانية.كل هذه التدابير الاحترازية في المصطلحات اللفظية لم تكن كافية للحيلولة دون حصول الحادث الذي اصبح تاريخيا ووقع في الثاني والعشرين من اكتوبر غداة وصولي.كان لدى الاسرائيليين همان اكيدان.الهم الاول، وهم يشكرون عليه، وهو متعلق بتأمين حمايتي من دون تمييز وهم يعتادون على ذلك، واصبح مزعجا، والهم الثاني، وهو اكثر بغضا وسرعان ما اصبح غير مقبول، وهو الحيلولة دون اتصالي بالسكان الفلسطينيين اذا امكنهم ذلك، الامر الذي جعلني اغضب واعبر بشكل تلقائي وعفوي عن هذا الغضب، لم تكن هناك اي ارادة او اي حسابات من وراء ذلك، وهذا شيء طبيعي لأن رد الفعل العفوي هو بشكل عام الاكثر صدقا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف