ماذا يعني أن يصبح المواطن السوري لاجئا ؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
علي الرشيد
كتب صديقي السوري المقيم في تركيا على صفحة الفيسبوك الخاصة به مع بداية حركة لجوء السوريين: "لا أعرف لماذا دمعت عيناي وأنا أستمع إلى مراسل إحدى القنوات التلفزيونية وهو يقول: أحدثكم الآن من أمام مخيم اللاجئين السوريين في تركيا".
والحقيقة التي أذهلته وأجرت دمع عينيه ربما تتلخص في المأساة التي تجتاح بلاده طولا وعرضا وما يصاحبها من معاناة إنسانية بالغة تضطر المدنيين اليوم وبخاصة النساء والأطفال والشيوخ لدفع ضريبتها الباهظة.. فبدلا من أن يكون المواطنون السوريون أعزّة مكرمين في بلادهم يتحولون بين عشية وضحاها إلى لاجئين لتركيا وقبلها الأردن ولبنان بحثا عن ملاذ آمن، بسبب السياسات الكاذبة الخاطئة للنظام السوري وتعامله اللاإنساني مع شعبه، وهربا من قسوة عنفه الأمني، وخشية من لظى حربه التي يصطلي بها، ردا وعقابا على احتجاجاته السلمية ومطالباته بكرامته الإنسانية وحقوقه المشروعة التي افتقدوا جزءا كبيرا منها، منذ حوالي نصف قرن، أو أربعة عقود على أقل تقدير.
لقد كشفت أحداث جسر الشغور عن حجم الأزمة الإنسانية التي ارتبطت بحراك الشعب السوري الذي بدأه قبل ما يزيد على ثلاثة شهور، وبالوقت نفسه عن حجم مأزق النظام الحاكم في دمشق.. ولكي يتضح ذلك بصورة أكثر جلاء ووضوحا نشير إلى ما يلي:
ـ لقد تحولت مدينة جسر الشغور إلى مدينة أشباح منذ أن بدأ يتردد إلى مسامعها عزم السلطات السورية تسيير حملة عسكرية لقمع مظاهراتها، حيث لم يبق من سكانها الذين يعدون خمسين ألفا سوى ألف شخص أو أقل، فيما توزع الباقون بين نازحين (في مدن سورية أخرى) أو لاجئين إلى تركيا (حيث تشير الأرقام إلى وجود أكثر من 5000 لاجئ و10.000 شخص ينتظرون على الحدود والأرقام مرشحة للتزايد)، ولن نتحدث عن قرى وبلدات محيطة بجسر الشغور التي عانت هي الأخرى من حركة فرار مماثلة لنفس الأسباب.
ولعل حركة اللجوء والنزوح الاستباقية التي اتسمت بهذا الحجم من الكثافة البشرية تكشف عن إجراء وقائي قام بها السكان المدنيون بعد أن سمعوا ـ ورأوا عبر مقاطع الفيديو تيوب ـ عن فظائع ما تم في محاصرة واقتحام محافظات وبلدات أخرى كدرعا وتلكلخ وحمص وبانياس، والعقاب الجماعي الذي طال أهلها ـ ومازال ـ وما عاينه الناس قبل ذلك بأم أعينهم عن كثب من قمع للمظاهرات وقتل وجرح المئات من المحتجين واعتقال الآلاف بسببها.
ـ كشف اللاجئون من خلال شهاداتهم عن حجم الانتهاكات اللاإنسانية التي ترتكبها قوات الأمن و"شبيحة" النظام وتؤكد على ممارسات لا تقل فظاعة عما واجهته براءة الأطفال متمثلة في حمزة الخطيب وثامر الشرعي، أو ما تعرض له الناس في مدينة البيضا قرب بانياس أو باب عمرو بحمص من إهانات وإذلال تجرد من قام بها من أبسط معاني الإنسانية والرحمة كالدوس على الرؤوس بالأحذية وتعذيب كبار السن، وتحدثوا عن حملات الترهيب للآمنين وحرق المحاصيل والقتل الذي طال البهائم، وهو ما يجعل الجناة مكشوفين بالأسماء والألقاب، وبحيث يصعب عليهم أن ينجوا من يد العدالة في سوريا مستقبلا، أو لدى المحاكم الدولية طال الزمن أو قصر كما ذاقها غيرهم من الطغاة.
ـ كشف اللاجئون أيضا عن زيف الرواية الرسمية للأحداث والتي يصر إعلام النظام وأبواقه عليها مثل: السكان هم من يطلبون من الجيش التدخل العسكري في مدنهم وقراهم لتخليصهم من العصابات، وهنا نتساءل على سبيل المثال لا الحصر: كيف يستقيم أن يطلب السكان ذلك بينما لم يبق في جسر الشغور عندما وصلها الجيش سوى 10 بالمائة منها في أحسن الأحوال فيما فر الباقون نجاة بأرواحهم؟!
ـ أكدت أحداث جسر الشغور عن عدم وجود عصابات مسلحة ـ كما دأب على ذلك النظام منذ اليوم الأول للاحتجاجات، وأظهرت أن ضحايا الجيش والأمن الذين يحاول النظام أن يبرر بهم عنفه ضد المدنيين من المحتجين سلميا في طول البلاد وعرضها هم في الأغلب أحد صنفين إما عناصر رفضت الانصياع للأوامر بقتل المدنيين من أبناء الشعب فقتلت بسبب ذلك فورا، أو عناصر انشقت عن الجيش وقوات الأمن بعد أن ضاقت ذرعا بما قاموا به في درعا وغيرها، وبخاصة أن جزءا منهم هم من أبناء جسر الشغور وما حولها فقرروا الانشقاق وحماية المدنيين من أهليهم وذويهم وأرحامهم وتأمين خروج آمن لهم، كما صرح بذلك المقدم المنشق حسين هرموش.
إن حركة نزوح ولجوء السكان السوريين مؤخرا بعشرات الآلاف ما هي إلا إحدى الإفرازات السيئة لممارسات النظام في مواجهة الاحتجاجات الشعبية الآخذة في التوسع والانتشار، وهي بقدر ما تترك من مضاعفات إنسانية على المدنيين الذين يضطرون لمغادرة بيوتهم وقراهم ومصادر رزقهم فإنها تزيد من فضائح النظام وتعري أكاذيب دعايته على رؤوس الأشهاد أمام شعبه والعالم.
يعزّ على الشعب السوري الذي كان حاضنا للاجئين من إخوانه العرب طيلة عقود وبخاصة الفلسطينيين والعراقيين بسبب سياسات وتأثيرات استعمارية بغيضة، أن يصبح الآن لاجئا لدى غيره، ليس بسبب محتل اقتلعه وهجّره من أرضه، وإنما بسبب السياسات القمعية لمن يحكمه وعدم قبوله الإصغاء لأشواقه في الحرية والعدالة.