جريدة الجرائد

مذكرات شيراك: هكذا حاصرني الإسرائيليون في القدس القديمة (3)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

باريس

الحلقة الأولى والثانية



شيراك والأسد وبينهما مترجمة الرئيس وسفيرة فرنسا لدى الكويت حالياً في ذلك اليوم، غادرت فندق الملك داوود في القدس الساعة التاسعة صباحا برفقة هيرفيه غيمار وكاترين كولونا وبرنار ايميه وجان دافيد ليفيت، لزيارة القدس القديمة، وتم الاتفاق مع السلطات الاسرائيلية مسبقا على الطريق التي سأتبعها، وعلى عكس ما قيل لاحقا، فإننا احترمنا خط السير الذي اتفق عليه ولم نحد عنه، والمسألة الوحيدة التي لم تكن في الحسبان جاءت من الجنود الاسرائيليين المكلفين بحمايتنا والتي تأكدت انهم تلقوا الاوامر بالتضييق على حرية حركتنا.

بداية لاحظت ان الجيش الاسرائيلي اغلق كل الازقة، وكل المحلات المحيطة وابعد الجماهير التي تحاول الاقتراب منا وأيديها ممدودة الينا لشكر فرنسا ولصداقتها، ولاحظت ان الشرطيين بدأوا بعزلي، هذه المرة عن الصحافيين الذين كانوا يرافقوننا الى درجة انهم منعوهم من ممارسة عملهم. وقد لفت نظري عدد منهم عما يحصل، تعودت على الصدامات. المصورون الصحافيون تعرضوا للدفع والتدفيش من دون مراعاة وحرموا من معداتهم.. فيما تصاعدت الشتائم من كل الجهات، وبات الوضع لا يطاق، حاولت عبثا ان أتصدى لذلك. ولكن الجيش الاسرائيلي لم يبالِ. والدورية التي يُفترض ان تتولى حمايتنا راحت تحاصرنا اكثر فأكثر، كلما تقدمنا وسط ضجيج وهرج ومرج لا توصف. وبعد ان تحملت هذا الوضع لعدة ساعات انتهى الامر بي بأن ضاق صبري واتهمت المسؤول عن جهاز الامن الاسرائيلي بالعمل الاستفزازي وهددته بالعودة الى باريس فورا اذا لم يوقف هذه التحركات، ونظرا الى عدد الصحافيين المتواجدين فإن هذا الهجوم المباغت سرعان ما عرف في العالم اجمع، ودوّى بشكل خاص في الدول العربية بقوة.

حادث جديد اندلع لدى وصولنا الى كنيسة القديسة حنة، وهي ملك الدولة الفرنسية منذ عهد نابليون الثالث، اي انها تحت الحماية الفرنسية. احطت علما بان الجنود الاسرائيليين قد تمركزوا داخل الموقع، فطلبت، وأنا أتواجد على اراضينا ان يخلوا المكان قبل ان ادخل فيه. وتعين علي ان انتظر عشر دقائق امام الكنيسة قبل ان يلبى طلبي. وعندما تحدثت خلال حفل الاستقبال الذي اقيم في الكنيسة للشخصيات الدينية والفلسطينية ذكرت بضرورة احترام الديانات الثلاث (المسيحية واليهودية والإسلام)، التي كيفت وأدبت روح المدينة المقدسة.

نتانياهو يشبه المرافقين

كانت الساعة تشير الى الثانية عشرة والنصف عندما عدت الى فندق الملك داوود. وكان رئيس الوزراء الاسرائيلي، الذي أرسلت اليه احتجاجا رسميا، بانتظاري. نتانياهو طلب ان يحدثني على انفراد. وبدأ بالاعتذار عن حادثي الصباح محاولا التقليل من اهميتهما.

وقال انهما نتجتا عن التشدد بالتدابير الامنية. وانه-شخصيا-يُزعج خلال تنقلاته. "جاك حقا اني آسف، قال لي بمكر، ولكن لو تعلم كيف يتصرفون معي، ان اضلعي تتلقى الضربات باستمرار!".

وتأملته في تلك اللحظات وقلت لنفسي انه يشبه احد المرافقين الاسرائيليين.. المنكبان عريضان، الشعر القصير، السير بسرعة، رجل مصمم واللهجة حاسمة.. "بي بي" كما يطلق عليه مواطنوه، لديه كل سمات القاسي. قامته العسكرية وجسمه الرياضي يعبران على الثقة بالنفس والحذر العميق من الذين لا يشبهونه. ولكنه ليس ايديولوجيا يخضع للقناعات القائلة بانتظار المخلص. ان خطابه القومي هو اقرب الى الرجل البرغماتيكي، وهمه الوحيد او الحصري هو ضمان الدفاع عن اسرائيل والحكم حالة بحالة على افضل السبل لحمايتها.

انه يستعير مراجعه قبل كل شيء من النموذج الاميركي. وبعكس الاكثرية الساحقة من مناصريه، فانه ليس رجلا متجمدا متحجرا في قناعاته، ولا غير مبال بوزن الضغوط الدولية. واذا كانت معرفتي به محدودة فآمل ان يكون واعيا بما فيه الكفاية ليتفهم انه ليس بمقدوره ان يوقف عملية السلام التي بدأت. والا يحاصر نفسه بتصلبه الذي يفرضه عليه انصاره.

رسالة الأسد إلى نتانياهو: مستعد للتفاوض من نقطة الصفر

بنيامين نتانياهو اعرب لي عن مخاوفه من الاستعدادات السورية لشن هجوم مباغت عبر الجولان. وان اسرائيل التي لديها مؤشرات جدية حول هذه المسألة تستعد لمثل هذا الاحتمال، ولكن حكومته، اوضح لي بتكتم، تفضل اعادة خلق الاجواء للحوار مع دمشق. فقلت له ان هذا الكلام يتماشى مع الرسالة التي طلب مني الرئيس حافظ الاسد ان انقلها له.

"مسألة الاراضي غير قابلة للتفاوض برأي الرئيس السوري، وهو مستعد لكل شيء لاستعادة الجولان. ولكن اذا ما وجهت اسرائيل له رسالة ايجابية فهو مستعد للبدء بمفاوضات من نقطة الصفر".

ورسالة سرية

من نتانياهو إلى الأسد

بنيامين نتانياهو طلب مني ان انقل بتكتم رسالة الى الرئيس السوري "يقول فيها انه بدوره لا يرغب باستخدام القوة، ولكن على العكس التوصل الى "ازالة التوتر"، وحدها فرنسا، قال نتانياهو، بمقدورها ان تساعدنا على قبول الدول العربية لبعض مطالب اسرائيل المعقولة. لا اريد ان اعمل فقط مع الولايات المتحدة، ولكنكم تتفهمون انه ليس بمقدوري ان اقول ذلك علنا".

الشك في نوايا نتانياهو السلمية

وبعدها انتقل نتانياهو وبلهجة ودية للحديث عن مسألة الانسحاب الاسرائيلي من مدينة الخليل. واشتكى من ياسر عرفات الذي يضيف باستمرار مطالب جديدة الى الاتفاقات التي تم التوصل اليها. وهو يعتبر اي نتانياهو ان مسألة اعادة انتشار القوات الاسرائيلية قد حلت سياسيا.

اذا ما واصل عرفات التردد فانه يلعب لعبة الارهابيين، وسنصل الى كارثة لا يمكن اصلاحها. والح علي ان انقل هذه الرسالة الى الزعيم الفلسطيني. ووعدته بان افعل ذلك، ولكنني الححت على النتائج الكارثية لاقفال الاراضي الفلسطينية.

واعدت التأكيد على طلبي بالتوصل الى اتفاق يزيل العقبة من امام مشروع مرفأ غزة بتمويل من فرنسا والاتحاد الاوروبي.

نتانياهو اجابني كدبلوماسي محنك انه اطلع على طلبي. ولكن مجرد ان امتنع عن الالتزام بهذا الموضوع وبتحسين شروط حياة الفلسطينيين كان كافيا بالنسبة لي لكي اشك في النوايا الحقيقية السلمية لرئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد.

وباعلانه بعد عدة اسابيع عن توسيع المستوطنات في الضفة الغربية والجولان فانه غامر بمخاطر قتل عملية السلام التي كانت في طور الاحتضان. وعرض نفسه لاستئناف العنف مع الفلسطينيين، وبتجميد العلاقات بين اسرائيل والدول العربية، والتي اكد لي انه يريد اقامتها، وبالنسبة للفيتو الذي وضعه ضد بناء مرفأ غزة، تحت حجة أمن اسرائيل، كيف لا يمكن رؤية الدليل على رفضه لاعطاء الفلسطينيين أي مؤشر جديد لسيادتهم؟

الاستقبال الفلسطيني

ولم يكن مفاجئا غداة حادثتي القدس الاستقبال الكبير الذي أجري لي في رام الله في الثالث والعشرين من أكتوبر، فبنظر الجماهير الفلسطينية اصبحت امثل نوعا من البطل الذي ارسلته العناية الالهية، فبالنسبة لها انا في ذات الوقت الذي تجرأ على تحدي الامن الاسرائيلي القوي وفي ذات الوقت الذي يتفهم اكثر من اي شخص آخر الضغوط المذلة التي يتعرض لها الفلسطينيون بعد ان خضع لتجربة رجال الامن الاسرائيليين واعرب عن ادانته لها.

هذا اضافة الى كوني اول رئيس غربي يزور الضفة الغربية منذ ان اصبح لديها جمعية تشريعية منتخبة بحرية ــ جمعية كنت اول رئيس دولة اجنبية يلقي امامها خطابا. كل الظروف تجمعت لتجعل مني رئيس بلد صديق، يتابع باهتمام مصيرهم ويهتم بالدفاع عن حقوقهم وتطلعاتهم الاكثر شرعية.

بعد ان حطت المروحية في رام الله والاستقبال الرسمي سمعنا نشيدنا الوطني تعزفه، بشكل مؤثر وترتكب فيه الاخطاء، الفرقة الموسيقية الفلسطينية، من دون ادنى شك لاول مرة، وعلى طول الطريق المؤدية إلى البرلمان تجمع آلاف الرجال والنساء يلوحون بالأعلام الفرنسية ويحملون اللافتات المكتوبة باللغة الفرنسية التي تحيي "شيراك" صديق فلسطين أو التي ترحب بي باللغة العربية وكتب عليها اهلا سهلا. بينما حمل آخرون صوري وصور الرئيس الفلسطيني.

والمشهد الأكثر تأثيرا كان تلامذة المدارس الذين يلوحون بحماس بالعلم الفرنسي بيد وبغصن الزيتون باليد الأخرى.

كان وجه ياسر عرفات منورا. وشعرت ان داخله يخفق بالفرح والفخر، عبقريته جعلته يعبر عن اكثر من عرفان الجميل والصداقة عندما دعاني "الدكتور شيراك" عندما قلت له خلال لقائي به في باريس انه بمقدوره ان يتصل بي في أي لحظة إذا كانت هناك اي مشكلة.

امام النواب الفلسطينيين الذين استقبلوني بحرارة بالغة لدى دخولي الى قاعة المجلس الوطني قدمني عرفات كمنقذ حقيقي. من أعماق قلبه قال، اننا بحاجة إلى الدكتور شيراك لاعطاء دفع جديد لعملية السلام. إننا بحاجة اليكم ختم خطابه وهو ينظر إلي.

الالتزام الفرنسي

الكل هنا يعرف التزام فرنسا لمصلحة اقامة دولة فلسطينية مثلما يعرفون حجم الدعم الاقتصادي والمالي. إن موقف بلدنا، الذي حدد منذ زمن طويل، ليس بحاجة إلى التذكير به لأناس ينتظرون، في ساعات الخوف القلق الجديدة أكثر من خطاب بسيط حول التضامن. لذلك قررت الذهاب إلى ابعد وتحدثت مباشرة وبشكل ملموس عن المشاكل الاكثر مصيرية التي يواجهون اليوم، لتحقيق التقدم، فإنه لا بد من احترام الاتفاقات الموقعة بروحيتها كما بأحرفها. ان فترة الحكم الذاتي يجب ان تسمح للطرفين بدراسة ما تم انجازه من قبل كل طرف. وتعلم العيش جنبا الى جنب واظهار ان السلام وحسن الجوار ليسا مسألة خيالية.

الوضع الانتقالي يجب الا يتم تمديده اعتباطيا. لأن هذه المسألة ليست حكيمة، ومن الآن يجب ان يتوقف الاستيطان، لان استمراره يضغط بشكل خطير على فرص التعايش المتناغم بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ادخال التعديلات على الوضع القائم في القدس، تدمير المنازل، طرد السكان، تشييد الطرق الخاصة.. يجب ان تتوقف اذا ما اردنا السلام. وتجب حماية وحدة الاراضي الفلسطينية، وتماشيا مع احترام الاتفاقات الموقعة، فإن حرية التنقل يجب ان تُضمن داخل الضفة الغربية وبينها وبين غزة. واخيرا يجب ان نضمن للفلسطينيين حق تنمية اقتصادهم. فمن دون هذا الحق فإن السلام سيكون وهما. وهذا يتطلب وقف اغلاق الاراضي، وايضا حرية تطوير وتنمية التبادلات الخارجية للاراضي الفلسطينية.

ان انشاء مرفأ في غزة، الذي قررت فرنسا مع شركائها الاوروبيين دعمه، هو ضرورة سياسية واقتصادية.

القدس ضرورة للسلام

وأخيرا، لا يمكن ان يكون هناك سلام اذا ما استبعدت مدينة السلام، القدس، وأظهرت الاحداث المأساوية الاخيرة ذلك. نحو القدس المدينة المقدسة ثلاث مرات تتوجه انظار العالم اجمع. وانا أتفهم المشاعر القوية التي تثيرها. ولا يمكن الفصل بين قدسيتها للمسلمين والمسيحيين واليهود. وبالتالي، فإنه لا بد من الحفاظ على تعدديتها، لكي تحفظ هويتها الفريدة. الحل في القدس ليس دينيا او قوميا.

ومن الضروري ان تضم حرية المؤمنين، كل المؤمنين، بالوصول الى مراكز العبادة في كل انحاء المدينة. ومن الضروري-ايضا-ان فكرة السيادة على المدينة، من اي جهة اتت، يجب ان تسوى في اطار تفاوضي، وفقا لما تنص عليه اتفاقات أوسلو. والتسوية يجب ان تأخذ بالاعتبار تطلعات وحقوق كل الاطراف المعنية.

إلى غزة

وكان من المقرر ان أتوجه الى غزة لافتتاح شارع شارل ديغول، برفقة ياسر عرفات. وهناك مائة كلم تفصل بين رام الله والقطاع. واختيار خطة السير كانت موضع مفاوضات حتى اللحظة الاخيرة مع السلطات الاسرائيلية، التي لم تكن تنظر بعين الرضا الى هذا الانتقال، وتبذل كل ما في وسعها لعرقلته. ولم يسمح لمروحيتي بأن تطير في خط مستقيم كما كنت ارغب. وقد اجبرت على القيام برحلة طويلة لتجنب تحليقي فوق القدس، اي انني لم احظ بمعاملة خاصة. وهذا ما يُفرض بشكل عام على ياسر عرفات.

الاستقبال في غزة كان على غرار الاستقبال في رام الله حارا، وحماسيا لا ينسى، والتأثر يأتي لأننا كنا نسمع قلوب أمة يعاق تقدمها وتعيش بظروف مزعزعة وغير مستقرة، ولكنها مصممة على تأكيد ذاتها من خلال القوة الضئيلة التي تملكها، والصداقة مع فرنسا تشكل جزءا من هذه القوة، وخلال انتقالنا في شارع الجنرال ديغول حيث كان حرس الشرف يرتدي الملابس الفولكلورية ويواكبنا على الخيل شاهدت صورة الجنرال، عرفات اعتبر ان الشارع ليس على المستوى اللائق بالجنرال، فقال لي انه قرر منح اسم الجنرال لجادة كبيرة. وبعد مراسم الافتتاح توجهنا الى الموقع الذي سينشأ عليه مرفأ غزة، وكان عبارة عن شاطئ بسيط، وكان القرار ببدء الاعمال ينتظر الضوء الاخضر الاسرائيلي، وكان لتواجدنا في المكان القيمة المعنوية لافتتاحه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف