العرب... والنموذج التركي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد العسومي
تقدم تركيا نموذجاً فريداً من نوعه يعكس مدى التغير الذي طال البنية الاقتصادية والسياسية للمجتمع التركي الذي ظل لسنوات طويلة متأرجحاً بين العالمين المتقدم والنامي من الناحية الاقتصادية، وبين النظامين الليبرالي والعسكري من الناحية السياسية.
ما الذي حدث في تركيا خلال السنوات العشر الماضية حتى يتحقق كل هذا التقدم الاقتصادي والسياسي؟ هل هو التحدي الذي وضعها فيه الاتحاد الأوروبي؟ أم هو أردوغان، أو أتاتورك القرن الحادي والعشرين؟
ربما تكمن الإجابة في أكثر من سبب، إلا أن الأكيد هو أن تركيا أصبحت نموذجاً لبلدان الغرب والشرق على حد سواء، ففي الغرب لا زال العديد من بلدان أوروبا الشرقية يتخبط في مصاعبه وأزماته، وذلك على رغم مرور عشرين عاماً على سقوط جدار برلين، وعلى رغم انضمام معظم هذه البلدان للاتحاد الأوروبي. أما في الشرق فحدث ولا حرج، حيث البطالة والفساد وتدني مستويات المعيشة، بما في ذلك الدولتان الغنيتان بالنفط على حدود تركيا الشرقية.
ولكن لندع الأرقام تتحدث عن نفسها، فحصة الفرد من الدخل القومي تضاعفت من سبعة آلاف دولار في عام 2001 إلى 14 ألف دولار في عام 2011. أما الصادرات التركية، فقد تضاعفت أكثر من مرتين لتصل إلى 114 مليار دولار تقريباً في العام الماضي 2010، مقابل 36 مليار دولار في عام 2002 في الوقت الذي حققت فيه تركيا خلال السنوات الماضية نسب نمو تعد واحدة من أعلى معدلات النمو في العالم.
وأدت الإصلاحات المالية والنقدية إلى تثبيت سعر صرف الليرة التركية لتتحرك في نطاق ضيق تجاه "اليورو"، الذي يعادل ليرتين تركيتين في المتوسط، وذلك بعد أن كان التضخم ينهش في العملة التركية التي كانت" توزن" بدلًا من عدها عند الشراء والبيع، كما هو حال بعض العملات العربية والتومان الإيراني في الوقت الحاضر.
وبجانب هذه الإصلاحات الاقتصادية استجابت تركيا لمعظم مطالب الاتحاد الأوروبي التشريعية، فعمدت في السنوات العشر الأخيرة إلى إحداث تغييرات شاملة في النظام القضائي وتطبيق النظام الانتخابي النسبي لأول مرة في الانتخابات التشريعية التي جرت الأسبوع الماضي، مما أدى إلى منح الأقلية الكردية المزيد من صلاحيات الحكم الذاتي، وفي الوقت نفسه تم إبعاد المؤسسة العسكرية تماماً عن السياسة وجنب البلاد الانقلابات المتكررة في العقود الثلاثة السابقة، ووفر لتركيا استقراراً سياسيّاً مهمّاً للنمو الاقتصادي.
ولذلك، فإن تركيا تكون بذلك قد وضعت رجليها على قضبان سكة القطار الأوروبي، بغض النظر عن موقف تحالف ساركوزي- ميركل اليميني، فالمصالح هي التي ستحدد في نهاية المطاف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، فإذا ما قارنا في هذا الصدد بين عضوية بعض بلدان أوروبا الشرقية، التي تحولت إلى عبء أو عالة على الاتحاد، فإن عضوية تركيا بقوتها الاقتصادية وتأثيرها السياسي وموقعها الاستراتيجي ستشكل قوة إضافية كبيرة للاتحاد الأوروبي وستمنحه ثقلًا استراتيجيّاً عالمياً إضافيّاً، وهو ما يدركه سياسيو أوروبا المعتدلون.
أما بالنسبة لبلدان الشرق، وبالأخص العربية منها، فإن التجربة التركية يمكن أن تشكل نموذجاً تنمويّاً يحتذى به، وخصوصاً أن أوضاع العديد منها مشابه تماماً لأوضاع تركيا ما قبل الإصلاحات التي قفزت بتركيا خطوات للأمام ووضعتها ضمن مجموعة "العشرين" التي تسير الاقتصاد العالمي. وربما تكون الظروف في البلدان العربية مهيأة أكثر مع مرحلة ما يسمى بالربيع العربي، الذي لا يمكن أن يكون ربيعاً حقيقيّاً بدون تحقيقه للنجاح الاقتصادي الذي يؤثر في حياة الناس المعيشية، وهو المطلب الأساسي للاحتجاجات في البلدان العربية، حيث ستكون السنوات القادمة هي المحك الرئيسي لجدوى الربيع العربي.