إعادة تشكيل النظام العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
خالد الحروب
في قراءة سابقة هنا تم تناول أثر الثورات العربية على النظام الإقليمي العربي من زاوية التفكيك وإعادة التركيب، وتم التركيز على جانبين أساسيين: الأول هو تبعثر محوري "الاعتدال" و "الممانعة" بسبب انهيار نظام مبارك في مصر، واستحقاقات الحالة في سوريا، والثاني قيام "كتلة الخليج الموسع" التي تريد ضم الأردن والمغرب إلى مجلس التعاون الخليجي. وفي السطور التالية استكمال في تأمل آلية التفكيك وإعادة التركيب تلك من خلال النظر في التغير الحاصل في ثلاث جبهات: موقع ودور مصر، وموقع ودور الأحزاب الإسلامية، واحتمالات التجزئة والتقسيم في بعض البلدان العربية.
من المشروع القول إن التحولات العربية، والمصرية تحديداً، تعيد مصر تدريجيّا إلى موقعها الطبيعي والقيادي في النظام الإقليمي العربي. وهو تقدير من المهم إلحاقه بقدر من التحفظات أساسها أن مصر ما بعد الثورة ما تزال منهكة ومنشغلة في شأنها الداخلي وفي مشروع تطوير الشرعية السياسية الديمقراطية والانتخابية لنظامها السياسي القادم. ولكن في المجمل العام ثمة مؤشرات على صعيد السياسة الخارجية المصرية تنبئ بأن انزياحاً مهمّاً يتم الآن على صعيد دور مصر الإقليمي وشكل ونمط سياستها الخارجية. وأهم هذه المؤشرات يحوم حول الموقف من إسرائيل ومن الحصار على قطاع غزة والعلاقة مع الأطراف الفلسطينية. ومن شبه المؤكد أن مصر ما بعد الثورة لن تكون كمصر ما قبلها على هذا الصعيد وهو أهم صعيد يشكل موقع ومكانة البلدان العربية الكبرى من مربع القيادة الإقليمية. وبمعنى أكثر وضوحاً، فإن الموقف من القضية الفلسطينية ومسألة الصراع مع إسرائيل يشكل قاطرة القيادة الأولى في الإقليم ومن يحتلها ويديرها بفاعلية (وليس بشعاراتية) وبنجاح وانحياز واضح إلى جانب الحقوق الفلسطينية والفلسطينيين ومواجهة إسرائيل هو المرشح الأكثر حظّاً لأن يكون الطرف القيادي بهذا الشكل أو ذاك. في حقبة ما قبل التغيير في مصر، كانت قاطرة القيادة الإقليمية خالية من الفاعلين العرب، ولهذا سرعان ما قفزت فيها أطراف إقليمية أخرى غير عربية. ويمكن القول والتكهن هنا بأن مصر ما بعد التحول ستتبنى "النمط التركي" في مواقفها من إسرائيل، وهذا يعني استمرار علاقات دبلوماسية (باردة) مع إسرائيل تحكمها الالتزامات الدولية والوعي بتفادي استعداء الولايات المتحدة، ولكن في الوقت نفسه عدم التسامح مع الصلف والعنجهية الإسرائيلية والوقوف في مواجهتهما.
أما في موضوع الأحزاب الإسلامية وموقعها ودورها فيمكن القول هنا إن من تداعيات التحولات العربية على النظام العربي قيد التشكل استقواء بعض التيارات الإسلامية بأطيافها المختلفة المعتدل منها والمتطرف، وانعكاسات ذلك على الشكل والخيارات والتوجهات الإقليمية العامة. فقد بات من المعروف أن انهيار الأنظمة الاستبدادية في عدد من البلدان العربية أنتج انطلاقاً لكل التيارات السياسية والفكرية التي عانت من قمع تلك الأنظمة، ومن ضمن ذلك بعض الجماعات والحركات الإسلاموية. وما يهمنا هنا، وفي سياق موضوع مركب وطويل إزاء علاقة الإسلاميين بالتحولات العربية، هو تأمل تأثير شريحتين من الإسلاميين من الذين يبدو أنهم الأكثر تأثيراً وتأثراً في نواتج التحولات العربية. الشريحة الأولى خدمتها هذه التحولات وهم الإسلاميون الذين سيشاركون في الشكل السياسي الجديد في أي من البلدان التي حدث فيها تحول. وهذه التيارات من المتوقع أن يكون لها دور مؤثر في البرلمانات والحكومات المتشكلة عبر آليات انتخابية، بما تترتب عليه تأثيرات في توجهات السياسة الخارجية للبلدان المعنية بهذه الدرجة أو تلك، وانعكاسات في شكل التحالفات بين الأنظمة والدول وعمقها وخياراتها الخارجية.
أما الشريحة الثانية من الإسلاميين العرب التي يفرض استدعاءها النقاش حول التحولات العربية وارتباط ذلك بتفكك النظام العربي واندراجه في حالة من السيولة وإعادة التركيب فهي تحديداً حركة "حماس" الفلسطينية و"حزب الله" اللبناني. وقد تأثرت الحركتان بشكل مباشر نتيجة للتحولات العربية، وتحديداً في مصر وسوريا. ففي حالة "حماس" بدا وكأن كثيراً من مآزقها الاستراتيجية قد انفرجت مع زوال نظام مبارك، وما رافقه من تصاعد دور "الإخوان" في مصر وشرعنته، وأن مسار التحولات العربية سيوفر انتعاشاً إقليميّاً لـ"حماس". بيد أن الأمور سرعان ما اتخذت مساراً آخر مع انطلاق الاحتجاجات السورية وتفاقم قمع النظام لها. فهنا أحست "حماس" بعمق المأزق حيث إن مكانة دمشق التي تعتبر القاعدة الإقليمية لقيادة "حماس" تحت شعار "حماية ودعم المقاومة" تدهورت بشكل متسارع في الشارع العربي وأصبح من غير المعقول لحركة مقاومة شعبية أن ترى نفسها واقفة في مربع نظام يقمع شعبه. وقد تكامل الظرف المصري المتغير لصالح "حماس" مع الظرف السوري المتغير لغير صالحها (على الأقل خلال مرحلة الثورة ضد النظام) ليدفع الحركة للهروب إلى الأمام باتجاه تحقيق المصالحة مع حركة "فتح". وفي المجمل العام وبالتوازي مع انهيار محور الممانعة وتآكل مقولات دمشق في الدفاع عن المقاومة واستخدام ورقتها للإبقاء على شرعية النظام القائم، فإن "حماس" ستجد نفسها مدفوعة أكثر فأكثر نحو مواقف "معتدلة" وأكثر براغماتية.
أما في حالة "حزب الله" فهو الآخر تأثر بشكل مباشر بالتحولات العربية وتقريباً بنفس الوتيرة المزدوجة التي تأثرت بها "حماس" وإن كانت خلاصة التأثيرات في حالة "حزب الله" تبدو أكثر سلبية، موفرة هامش مناورة أكثر ضيقاً. وقد اغتبط "حزب الله" بسقوط نظام مبارك، ذلك أن إحدى حلقات الحصار الإقليمي على الحزب، بل وأهم أعدائه الإقليميين شراسة، قد زال. ولكن تلك الغبطة والمكسب الاستراتيجي سرعان ما تبددا أمام هول الخسائر التي جرتها الاحتجاجات السورية ضد النظام الذي يمثل شريان الحياة بالنسبة للحزب. وإذا كانت "حماس" قد تمكنت من المناورة واستخدام قواعدها الجغرافية الأخرى، في الضفة الغربية وقطاع غزة، والهروب للأمام باتجاه المصالحة الفلسطينية، فإن "حزب الله" لم يملك تلك الوفرة الجغرافية، مما اضطره للوقوف علناً وبلا مواربة إلى جانب نظام دمشق مغامراً بخسارات جسيمة في شعبيته ومكانته في العالم العربي.
ومن تداعيات التحولات العربية أيضاً أن الأمور قد تتطور في بعض البلدان نحو سيناريوهات التقسيم والتجزئة بما يؤدي إلى تأثير مباشر في شكل وبنية ووحدات النظام الإقليمي الجديد. ويبدو أن خطر الانقسام الجغرافي، إلى هذه الدرجة أو تلك، ماثل في ليبيا واليمن وربما في سوريا أيضاً. وبعض الأنظمة في هذه البلدان اشتغلت على تسعير الخلافات القبلية والإثنية والطائفية في معرض دفاعها المستميت عن نفسها وللحفاظ على سيطرتها على مقاليد الأمور. والتوافقات الهشة على مبدأ المواطَنة في هذه البلدان تم تدميرها في فترة وجيزة بما يدلل من جهة إضافية على الفشل التاريخي للأنظمة المنهارة في خلق هوية وطنية جامعة على مدار عقود طويلة من الحكم والاستبداد به. وليس هذا فحسب بل إن النظامين في ليبيا واليمن استخدما ورقة التقسيم والتهديد بها جهراً، وارتكن الخطاب السياسي و"الوطني" للنظامين إلى خطاب قبلي وجهوي تحريضي يؤلب جزءاً من الوطن ضد الجزء الآخر. ولم يتردد أحد الزعيمين في تهديده شعبه وبلده بأنه إن أجبر على التنحي والرحيل عن البلد فسيتركه كما وجده، أي مقسماً ومدمراً. وتتقوى احتمالات التقسيم والتجزئة في ظل وجود مثل جنوب السودان المنقسم حديثاً، الذي قد يشجع حالات انقسامية هنا أو هناك.