بن علي وجزاء التاريخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
توفيق المديني
بعد يوم واحد من المحاكمة، قضت المحكمة الابتدائية في العاصمة التونسية غيابيا الاثنين 20 حزيران 2011 بسجن الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي لمدة 35 عاما لكل منهما، وغرامة قدرها 91مليون دينار تونسي (46مليون يورو) بعد إدانتهما بالسرقة وحيازة العملات الأجنبية والمجوهرات والاسلحة والمخدرات، التي وجدت في أماكن إقامتهما في قصري (قرطاج وسيدي الضريف) بعد فرار الزوجين، يوم 14كانون الثاني 2011.
وقد أثارت هذه المحاكمة جدلاً قانونياً وسياسياً واسعاً في تونس والعالم العربي، كونها المحاكمة الأولى التي تحصل لديكتاتور عربي أسقطته ثورة شعبية، شكلت نقطة البداية لربيع الثورات العربية، والتي كان من المفترض أن تعكس هذه المحاكمة التاريخية روح نموذج الثورة الديمقراطية التونسية، وتطلعاتها نحو بناء دولة الحق والقانون، وإرساء سلطة قضائية تحترم روح العدالة والقانون. فالثورة لها أسبابها التي لا يعرفها العقل، فضلاً عن أنه من الصعب جداً أن نجد انسجاماً بين العدالة والثورة عبر التاريخ. وفي أساس العدالة كان هناك الإنصاف، والإنسانية في قاعة المحكمة، وحقّ الدفاع عن المتهم أو افتراض البراءة.
فعقب سقوط جدار برلين عام 1989، وانهيار الأنظمة الشمولية في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، جرت محاكمة سريعة وبشعة للرئيس السابق نيكولا تشاوسيسكو وزوجته بعد فترة وجيزة من إطاحتهما، وتم تنفيذ حكم الإعدام فيهما رميا بالرصاص .إن التذكير بهذه المحاكمة للديكتاتور الروماني السابق لا يعني الدفاع عنه، بل كان على السلطات الرومانية التي انبثقت عن الثورة أن تقوم بمحاكمة نيكولاي تشاوسيسكو محاكمة عادلة، يسمح له فيها بالدفاع عن نفسه، وتكون هذه المحاكمة في الوقت عينه عبرة حقيقية لكل ديكتاتور يعتبر نفسه أنه فوق العدالة والقانون، أو أنه يمتلك القدرة الفائقة التي تمكنه من الإفلات من جزاء التاريخ.
ونعود إلى محاكمة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فمن الناحية القانونية الشكلية، وبسبب غياب المحامييْن الفرنسي جان إيف لوبورنيان واللبناني أكرم عازوري اللذين عينهما بن علي وزوجته للدفاع عنهما، فإن الهيئة الوطنية للمحامين عينت خمسة محامين آخرين للدفاع عنه، حيث سجل محامو الدفاع طعنا أساسيا في الإجراءات، إذ قال عضو هيئة الدفاع حسني الباجي إن القانون يقضي باستدعاء المتهم الموجود خارج البلاد طالما أنه معلوم المقر، وذلك قبل ثلاثين يوما من تاريخ الجلسة، غير أن المحكمة لم تقم باستدعاء بن علي وزوجته سوى قبل ستة أيام.
والحال هذه، طلب المحامون تأجيل هذه المحاكمة حتى يتسنى لهم الاطلاع على ملفات القضايا المطروحة،ومعاينة الأدلة التي تدين موكلهم، إلى جانب الإفساح في المجال أمام السلطات المعنية لاستدعاء المتهم بالطرق القانونية للمثول أمام المحكمة. وفي هذا السياق اعتبر المحامي الفرنسي للرئيس التونسي المخلوع جان ايف لي بورني في تصريح لـ"فرانس برس" أنه لا يرى في المحاكمة سوى "عملية تصفية سياسية" و"مهزلة قضائية". ورداً على سؤال لمعرفة ما اذا كان بن علي يعتزم العودة الى تونس لمواجهة القضاء، قال المحامي جان ايف لي بورني "بالتأكيد لا". وأضاف "هذه المحاكمة هي فخ بكل معنى الكلمة ومن غير الوارد التصديق على اجراء لا يزيد عن كونه عملية تصفية سياسية. نحن لا نعتبر هذه المحاكمة الا عملية سياسية".
من وجهة نظر الشعب التونسي وكذلك القوى الديموقراطية تعتبر هذه المحاكمة للديكتاتور السابق زين العابدين بن علي مهزلة، ومسرحية، لأنه لا يمكن محاكمة شخص غيابيا، إذ تمنع مجلة الإجرآت الجزائية المحامي أن يرافع في غياب موكله. وفضلاً عن ذلك، فإن إسم بن علي وعائلته لا يوجد في قائمة الأنتربول للمطلوبين على موقعها الإلكتروني،لأن الحكومة التونسية المؤقتة المتشكلة من بقايا نظام بن علي لم تعلمها عن نيتها في جلبهم، في حين أنه توجد أسماء أفراد الحكومة المصرية الهاربين لأن الحكومة الحالية طلبتهم، كما أن السفارة السعودية لم تطالبها تونس بجلب بن علي وأفراد عائلته.
هذه المحاكمة المسرحية التي تخص شخص بن علي وحده (كالمخدرات وسرقة الآثار والإتجار في السلاح...)، تستهدف تسكين الشعب التونسي، والتنفيس عن حالة الاحتقان، لكنها لا تنجح. فهذه المحاكمة لا يمكن أن تخدع أحدا، سواء في تونس أو أي مكان آخر. لأن محاكمة بن علي الحقيقية يجب أن تتطرق إلى الملفات والقضايا السياسية طيلة مرحلة حكمه الديكتاتوري (23عاماً)، والمتعلق ببناء دولة بوليسية صريحة، وبممارسة أجهزة المخابرات القمع والتنكيل والتعذيب في المعتقلات والسجون، وحتى القتل بقوى المعارضة التونسية السابقة، ولاسيما الإسلامية منها، وللمتظاهرين الذين فجروا الثورة التونسية، وبخيانة بن علي للعهد الذي قطعه للشعب التونسي، والمتعلق برفض مبدأ الرئاسة مدى الحياة، والذي تراجع عنه لاحقا.
في ظل العزوف المطلق عن العمل السياسي، بسبب تدمير الدولة البوليسية التونسية وحدة المجال السياسي والمجتمعي والروابط المجتمعية، ونفيها المعارضة، الذي قادها إلى نفي ذاتها وصفتها كدولة أيضاً، ونفيها المجتمع، قام الديكتاتور بن علي في التحضير لـ " الرئاسة مدى الحياة"، خلال السنة الثانية لولايته الثالثة.. وهناك بعض المواقف والظواهر التي برزت خلال هذه المدة من حكم بن علي تؤدي حتما إلى العودة إلى الرئاسة مدى الحياة، في تناقض كلي وصريح مع بيان 7 تشرين الثاني 1987، ومع الدستور التونسي الذي لا يجيز للرئيس تولي مهمة الرئاسة أكثر من ثلاث دورات.
وليس هناك الآن ما يمنع إصدار مذكرة استدعاء الديكتاتور بن علي بعد سقوط نظامه في تونس، للمثول أمام المحكمة بتهمة الخيانة العظمى للدستور، وللعلاقة مع إسرائيل، ولبناء اقتصاد مافياوي من خلال "الإصلاحات الهيكليّة" (بما فيها الخصخصة والحدّ من الدعم الحكومي)، واتّفاقيات التبادل التجاري الحرّ والدعوة للاستثمارات والتحفيز على إطلاق مشاريع العمل، استفادت منه العائلات المافياوية المقربة من الرئيس المخلوع، ولممارسة التعذيب على أوسع نطاق،كما ليس ثمة من سبب يمنع إجباره على الامتثال. فهناك عدد من المناطق القضائية التي بدأ القانون فيها، آخر الأمر، بالعثور على الأدلة، وتمثل أمامنا على كل حال سابقة بينوشيه، وميلوسيفيتش.
نحن الآن نعيش في عصر لا أحد فيه فوق القانون، بمن في ذلك من هم في قمة السلطة. ونحن نرى أيضاً العديد من زملاء الديكتاتور بن علي من اليونان إلى تشيلي إلى الأرجنتين إلى أندونيسيا، يقبعون الآن في السجون أو ينتظرون المحاكمة. والحصانة الوحيدة التي كان يتمتع بها الديكتاتور بن علي هي المرتبة التي كان يشغلها، وقد فاحت رائحة هذه الحصانة حتى زكمت الأنوف، وإذا سمح لها بالاستمرار فسوف تكون كمن يبرئ بطريقة مخزية ساحة الفيلسوف القديم أناكارسيس، الذي ذكرنا أن القوانين مثل بيوت العنكبوت، لا تملك من القوة إلا ما يكفي لاحتجاز الضعفاء، وهي ضعيفة لا تقوى على حجز الأقوياء. وقد حان الوقت، باسم ضحايا القمع في تونس الذين لا حصر لهم لعددهم المعروفين منهم وغير المعروفين، لكي تتدخل العدالة وتفرض سيطرتها.