جريدة الجرائد

الشعب يتذكر سوريا المنسية منذ 40 عاماً!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ترجمة: ياسر إدريس



في مقال مطول في صفحة الرأي نشرته صحيفة "ذا نيويورك تايمز" الأميركية, كتب محمد علي الأتاسي, الصحافي والناشط الحقوقي نجل الرئيس السوري الأسبق نور الدين الأتاسي, عن الأوضاع في بلده ونضال السوريين ضد النظام لنيل حريتهم وكرامتهم.
يقول الكاتب: في عام 2009 نشرت مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" حوارا أجراه مراسلها دون بولت مع الرئيس بشار الأسد يحكي فيه أنه بعد وقت قصير من تشييع جنازة والده حافظ الأسد عام 2000 دخل مكتب والده للمرة الثانية في حياته -المرة الأولى كانت زيارة خاطفة ليخبر والده عن أول درس تلقاه في اللغة الفرنسية- ووجد هناك "زجاجة كولونيا" كبيرة موضوعة على رف بجوار مكتب والده, لكن المثير للدهشة أن هذه الزجاجة وكما أخبر بشار المراسل ما زالت موجودة في مكانها بعد مرور 27 عاما.
ويرى الأتاسي في هذه "الزجاجة المنسية" رمزا لسوريا, التي ظلت بعيدة عن الأنظار لمدة 40 عاما من حكم عائلة الأسد, والتي وُضعت ومعها آمال وتطلعات شعبها على "الرف", وأصبحت في طي النسيان بدعوى أن ذلك يحقق لها ولشعبها الاستقرار.
هنا يتذكر الكاتب والده نور الدين الأتاسي, الذي تولى رئاسة سوريا ثم اعتقل عام 1970 نتيجة لانقلاب عسكري قام به حافظ الأسد وزير الدفاع آنذاك ضد رفاقه في حزب البعث. ويقول: كنت في الثالثة من عمري وفهمت أن السجن ليس عقوبة للمجرمين فحسب بل لسجناء الرأي أيضا. ويضيف: قضى والدي 22 عاما في زنزانة ضيقة دون أن توجه إليه تهمة أو يخضع لمحاكمة, وسمح لنا بزيارته ساعة واحدة كل أسبوعين, ودخل في صراع مع مرض السرطان ولم يقدم له العلاج المناسب, ثم أطلق سراحه أخيرا وتوفي في باريس بعد أسبوع من وصوله في ديسمبر عام 1992.
وأوضح الكاتب أن "سوريا المنسية" كانت تعني للغالبية العظمى من الشعب السوري دولة بوليسية يسيطر عليها نظام ديكتاتوري بقبضة من حديد, وتتضافر من أجل استمراره جهود دولية بزعم توفير استقرار إقليمي والحفاظ على أمن إسرائيل وكذلك "اتفاقية السلام التي تغطي مرتفعات الجولان. وهو سلام بارد كبرود الثلج الذي يغطي جبل حرمون!"
ومضى يقول: إن "سوريا المنسية" كانت تعني لنا آلافا من المعتقلين السياسيين قبعوا لعقود طويلة في ظلمات السجون ومراكز الاعتقال, وحالات اختفاء تعرضت لها عائلات تركت دون الحصول حتى على شهادة وفاة, ودموع أمهات وزوجات لم تتوقف منذ الثمانينيات في انتظار عودة أبنائهن وأزواجهن حتى ولو "ملفوفين في الأكفان", وإذلال يومي ولد صمتا مطبقا وخوفا متزايدا في كل مكان, وشبكات من الفساد والمحسوبية, وبيروقراطية متهالكة, وأجهزة أمنية عملت دون مراقبة أو مساءلة على تهميش السياسة وترويض القضاء وخنق المجتمع المدني وسحق أي معارضة.
لكن الكاتب يؤكد أن دوام الحال من المحال, فلا يمكن أن تظل سوريا منسية, ولا يمكن أن يظل شعبها غافلا أبد الدهر شأنه في ذلك شأن كل شعوب العالم التي تطمح في العيش بحرية وكرامة. ويضيف قائلا: كان هناك شعار يقول "قائدنا إلى الأبد هو الرئيس حافظ الأسد" لصق على المباني العامة وزين به مدخل كل مدينة. هذا الشعار يخبر السوريين أن أمواج التاريخ توقفت عند حدود بلادهم, فكان نظام الأسد كمن يدفن رأسه في الرمال, يعيش في وهم أن بإمكانه إيقاف عجلة التاريخ إذا استمر في إيذاء شعبه بما فيه الكفاية.
حدث ذلك في الثمانينيات في مجازر دموية شهدتها مدينة حماة, وحدث في بداية التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي -ووقتها حافظ النظام السوري على دولة الحزب الواحد- ثم تكرر ذلك أيضا عام 2000 بعد وفاة حافظ الأسد وانتقال السلطة عن طريق التوريث, ليدفن معه "ربيع دمشق" حيا, وكأن هذا النظام يريد إثبات أن بإمكانه التغلب حتى على حتمية الموت, فقام باعتقال أبرز النشطاء بعد أن طالبوا "الرئيس الوريث" بفتح صفحة جديدة والمضي قدما نحو ديمقراطية حقيقية.
وأوضح الكاتب أن ذلك كله حدث خلال العقود الأربعة الماضية, حيث رفض نظام الأسد القيام بإصلاحات سياسية جادة, وشهدت سوريا تحولات ديموغرافية واقتصادية واجتماعية هائلة, وتزايدت أعداد السكان وأدت هجرة أعداد هائلة منهم من القرى إلى المدن إلى زيادة الانفجار السكاني في ضواحي دمشق وحلب, فتزايدت معدلات البطالة وتركزت الثروة في أيدي فئة قليلة من أعضاء النظام وحاشيته.
ويشير الكاتب إلى أن العديد من المعلقين والدبلوماسيين الغربيين أعربوا عن شكوكهم في أن يهب الشعب السوري يوما ما للمطالبة بحقوقه, وقللوا من شأن المعارضة, لكن في لحظة من لحظات الحقيقة فتح السوريون قلوبهم وعقولهم لرياح "الربيع العربي" التي حطمت ذلك الجدار الذي حال بين العرب وبين الديمقراطية, وأنهت تلك الخيارات الزائفة: الاستقرار أو الفوضى, الديكتاتورية أو التطرف.
وأضاف الكاتب أن السوريين استيقظوا اليوم للمطالبة بحقوقهم المسروقة, وتحصيل فواتيرهم القديمة, وربما يكونون هم الأكثر معاناة مقارنة بما جرى في الانتفاضات العربية الأخرى إذا أخذنا في الاعتبار قسوة النظام وتهديد الحرب الأهلية, لكن في الوقت عينه فإن وحدة هذا الشعب وتصميمه على البقاء في سلام سوف تمكنهم في نهاية المطاف من نيل الحرية وتحقيق الديمقراطية. فهو شعب شجاع بصورة استثنائية, يوجه أبناؤه صدورهم العارية نحو رصاص القناصة, وهم يفهمون معنى هذه الحرية التي كلفتهم ثمنا باهظا من حياتهم وحياة أبنائهم وبناتهم.
ويعود الكاتب مرة أخرى إلى "زجاجة الكولونيا" التي لم يقل الأسد في حواره ماذا فعل بها, لتصبح هذه الزجاجة الكبيرة موضع نقاش, لكنه ربط بينها وبين خطابات الأسد الثلاثة الأخيرة, وقال: مثلما لم يحرك أحد تلك الزجاجة الكبيرة لعقود فإن استجابة النظام السوري التي بدت في هذه الخطابات برهنت على أن لا أحد في القصر الرئاسي ولا حتى رئيس الجمهورية يمكنه تحريك "زجاجة الاستبداد" التي جعلت مستقبل سوريا أسيرا لعقود طويلة. ويضيف: لقد حكم والدي سوريا أربع سنوات, لكنني لم أرث عنه لا قوة ولا ثروة, كل ما أخذته حقيبة صغيرة أرسلت إلينا من السجن بعد وفاته, هي كل ممتلكاته بعد 22 عاما قضاها في الحبس, وكل ما أتذكره من هذه الحقيبة رائحة رطوبة السجن في ملابسه.
واختتم الأتاسي بالقول: في المرة القادمة التي سأزور فيها قبر والدي سأخبره أن سوريا تسترد الآن حريتها مرة أخرى, وأن الشعب السوري استيقظ من غفلته ونجح أخيرا في كسر "زجاجة الكولونيا" الكبيرة، لتفوح منها عبير الحرية ورائحة الكرامة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف