ليبيا واليمن وسوريا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
علي الغفلي
تشير التجارب التاريخية إلى أنه على الرغم من إمكانية أن تستمر أنظمة الحكم السلطوية سنوات طويلة، إلا أن الحقيقة هي أنه لا توجد طريقة ذكية لاستدامة أنظمة حكم الاستبداد السياسي إلى الأبد . قد يتمكن النظام المستبد من أن يصمم الترتيبات المؤسسية والمجتمعية بقصد تعزيز قدرة مؤسسات وممارسات استبداد السلطة وطغيان الحكم على الاستمرار رغم إرادة ومصالح الشعب، ولكن ما تلبث أن تظهر التناقضات المستفحلة بين مؤسسات نظام الاستبداد من جهة، وهياكل وقوى المجتمع من جهة أخرى، وتتضح استحالة التوفيق بينهما، فتبرز الحاجة إلى التغيير والإصلاح في مؤسسات الحكم، وحين لا يحدث ذلك بسبب تجاهل النظام الحاكم أو مماطلته أو تعنته يحدث الصدام بينهما في شكل انتفاضة الشعب من أجل إصلاح النظام السياسي وتغيير النظام الحاكم .
وعلى الرغم من توفر بعض المنجزات التي يمكن أن يتخفى خلفها حكم الاستبداد من أجل أن يبرر المستبدون السياسيون استمرار أنظمة حكمهم، أو أن يعتمدوا عليها بغرض تأسيس جانب من شرعية أدائهم في ظل الشكوك الجوهرية التي تكتنف شرعيتهم الدستورية والسياسية، فإنه سرعان ما تتساقط أقنعة المنجزات هذه، فتظهر أمام الشعب مثالب الطغيان وتجاوزاته غير مغطاة بأية ادعاءات من الإنجازات الوطنية أو الإقليمية أو الدولية . وفي الوقت الذي يمكن الاعتقاد أن الحكمة تقتضي أن يكتفي نظام الحكم المستبد بفترة معقولة من ممارسة السلطة يقرر بعدها الانسحاب بشكل سلمي أمام مطالب الشعب من أجل صيانة جوانب الإنجاز المحدود التي تمكن من تحقيقها، فإن الأمر المستغرب أن أنظمة الحكم في كل من ليبيا واليمن وسوريا تقرر التمسك بالسلطة حتى لو اقتضى الأمر الاصطدام الدموي مع شعوبها، إلى درجة تهدد بنسف انطباعات وإنجازات إيجابية كان النظام قد نجح في صياغتها خلال عهده .
كانت قطاعات كبيرة من الشعب العربي تتلقى التصريحات الثورية التي ظل العقيد معمر القذافي يطلقها خلال العقود الماضية ضد التدخلات الغربية في دول العالم النامي بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص، وترى جماهير غير قليلة في العالم العربي في تلك التحليلات التقييمية التي استمر القذافي يسهم بها علانية في المحافل الدولية والإقليمية حالة استثنائية من الشجاعة القيادية أمام الهيمنة الغربية والعنجهية ldquo;الإسرائيليةrdquo; . ويمكن للأفارقة والعرب احتساب دور القذافي في بث روح التكاتف بين الدول الإفريقية ضمن ميزان منجزاته، إضافة إلى دوره المبكر بالتعاون مع الدول العربية الأخرى في تقليص هيمنة شركات النفط الغربية على هذا المورد العربي الحيوي . بيد أن قدرة الزعيم الليبي على الاستمرار في نيل التقدير الشعبي العربي والأفريقي على أساس إطلاق الأحكام بخصوص تحليل العلاقة العدائية بين الغرب والعرب، أو العمل على الارتقاء بالتعاون الأفريقي، أو محاولة التعامل الندي مع القوى العالمية قد تلاشت إلى حد كبير في المرحلة الحالية، وذلك بعد أن لجأ إلى استخدام منطلقاته الثورية سلاحاً من أجل تقويض صدقية مطالب الشعب الليبي بالإصلاح والتغيير السياسيين، وذلك حين اتهم الثائرين ضده بالهلوسة والإرهاب والخيانة، وسارع إلى مواجهة شعبه بالآلة العسكرية المدمرة . لقد خسر الزعيم الليبي سبب الاهتمام الشعبي الوحيد بشخصيته وأفكاره وتوجهاته، وذلك حين قرر أن يوظف رؤيته النارية من أجل تبرير الطريقة الدموية التي صار يعالج من خلالها ثورة الشعب الليبي ضد نظام حكمه .
كما كان دور نظام الرئيس اليمني علي عبدالله صالح واضحاً في السعي إلى المحافظة على الوحدة الوطنية اليمنية بأي ثمن، وربما تمادى في فرض هذه الوحدة وصيانتها ضد الأصوات والمحاولات المطالبة بالتراجع عن الشكل الحالي من الوحدة بين الشمال والجنوب، وفي ظل تطلع الشعوب العربية إلى تحقيق الوحدة السياسية بين كافة الدول العربية فإنه كان بإمكان الرئيس علي عبدالله صالح أن يقدم نفسه مثالاً معاصراً في إنجاز الوحدة بين الدول العربية، على الرغم من المثالب التطبيقية المهمة التي تشوب هذا المنجز . بيد أن نزعة الاستبداد بالحكم طغت على حكمة الاعتناء بالمنجز الوطني، وبدا الرئيس اليمني مهتماً بالتمسك بالسلطة والبقاء على سدة الرئاسة على حساب كل شيء، واستخدم صرامته العسكرية التي فرضت الوحدة بين شمال اليمن وجنوبه من أجل فرض انصياع الشعب لمنطلقات وممارسات الاستبداد السياسي التي تراكمت خلال ثلاثة عقود من الحكم، وهو لا يعتبر كافة الاضطرابات الخطيرة المسيطرة على الساحة اليمنية ثمناً باهظاً من أجل بقائه في السلطة .
كما كان الشعب العربي يثني على صمود الحكومة السورية أمام الضغوط الدولية من أجل تقديم تنازلات استسلامية للكيان الصهيوني في مسار مفاوضات السلام بين الطرفين، ويلاحظ بإعجاب عدم استعجال دمشق التوصل إلى أية تسوية مع تل أبيب وتحليها بالأناة والتريث في هذا الصدد . بيد أن صفات صمود الحكومة السورية، وأناتها الاستراتيجية في التعامل مع عملية سلام الشرق الأوسط، وتريثها في خصوص عقد اتفاقات سلام غير عادلة مع ldquo;إسرائيلrdquo;، والتي كانت في مجملها صفات محمودة في ما يتعلق بمسألة علاقة دمشق مع واشنطن وتل أبيب، لا يمكن أن تعد صفات مقبولة على الإطلاق حين يتعلق الأمر بمماطلة دمشق في تقديم التنازلات السياسية أمام مطالب التغيير والإصلاح التي لم يدخر الشعب وسيلة في التعبير عنها خلال الشهور الماضية . لقد خسرت الحكومة السورية انطباعات الإعجاب الشعبي العربي بمقاومتها الانجرار في مسار السلام الاستسلامي مع تل أبيب، والسبب بكل تأكيد يتمثل في تعنتها الدموي أمام المطالب السياسية التي ينادي بها الشعب السوري .
لقد نقضت أنظمة الحكم في ليبيا واليمن وسوريا غزلها، وخسرت أهم منجزاتها الوطنية والإقليمية والاستراتيجية، وذلك حين قررت أن تصطدم مع إرادة شعوبها بقوة السلاح من أجل استدامة بقائها في السلطة، واغتالت حاضر مجتمعاتها، وعرضت مستقبل دولها لمصائر كارثية، تهدد بتدمير كيانها من خلال مخاطر الحرب الأهلية، والتمزق الوطني، والتدخل العسكري الدولي .