التحرير «مغلق للتطهير» ... والثوار يأسفون للإزعاج
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أمينة خيري
"عفواً... مغلق للتطهير!". كادت اللافتة الصادمة تصيب سائق سيارة الأجرة بانهيار عصبي. فلليوم الثاني على التوالي جاء يصول ويجول حول ميدان التحرير في محاولة يائسة بائسة للوصول إلى المبنى العتيد المسمى "المجمع" لإنجاز بعض الأوراق، لكن "الإعلان الثوري" باستمرار إغلاق المبنى حال دون ذلك.
نصحه أحدهم بمراجعة صفحات الحركات الثورية على الـ "فايسبوك" قبل المجيء للتأكد من فتح المجمع حتى لا يضيع وقته هباء، وليت ما فعل! فقد كاد الرجل يفقد صوابه. فحتى الأمس القريب كان يحدد خط سيره بناء على تحركات رموز النظام السابق الذين كانت مواكبهم تغلق الطرق وتعطل الجسور وتوقف الحال، واليوم ها هو يجد نفسه واقعاً بين شقي رحى ثورة أوشكت على فقدان المسار، وشق آخر لثوار قرر بعضهم اعتناق المبدأ الشهير "الغاية تبرر الوسيلة"!
إلا أن وسيلة مكيافيللي في الوصول إلى المآرب لم تجد نفعاً بالنسبة إلى سائق الأجرة والآلاف من المواطنين الذين عجزوا عن دخول "المجمع" أو حتى المرور بسياراتهم عبر الميدان بعدما تم غلق كل الطرق المؤدية إليه من قبل الثوار.
ولم يشفع لدى السائق صوت شادية الحنون وهي تصدح عبر مكبرات الصوت في شتى أرجاء الميدان متسائلة في استنكار جميل "ماشافش الأمل في عيون الولاد وصبايا البلد؟!" ويردد خلفها الأولاد والصبايا الثوريون "يا حبيبتي يا مصر يا مصر". فأغنية شادية لا تتناسب مع الشرر المتطاير نتيجة الحالة المزاجية والعصبية للسائق.
شرر آخر يتطاير على مرمى حجر لكنه ليس معنوياً ناجماً من تعطيل الأعمال وإغلاق الميدان. بائع ذرة مشوية يدعو بأعلى صوته للثوار الذين حوّلوا الميدان منذ يوم الجمعة إلى ساحة تنشط فيها عمليات شراء الذرة المشوية. يقول مهللاً: "لم أفهم يوماً المقصود بالعدالة الاجتماعية، وحين شرحها لنا أعوان مبارك فهمتها ولم أشعر بها. وها أنا اليوم أشعر بها وأعيشها".
العدالة الاجتماعية التي حققها اعتصام ميدان التحرير لبائع الذرة الذي انتعشت تجارة أكوازه شملت كذلك "أم فتحي" التي تبيع سندويتشات السجق بالصلصة والبيض المسلوق، وزميلتها "أم حسين" بائعة المياه الغازية، وزوجها صاحب عربة الآيس كريم (البوظة) الشهيرة في وسط الميدان، وغيرهم العشرات ممن يدعون للثورة والثوار ليل نهار بسبب الأرقام القياسية التي تحققها مبيعاتهم.
مبيعات السجق والآيس كريم التي حققت "العدالة الاجتماعية" للباعة الجوالين ولو بصفة موقتة في يوم الجمعة من كل أسبوع تسارعت وتيرتها مع الاعتصام والدعوة لمليونية جديدة اليوم الثلثاء ولكنها مليونية "مسائية" حتى يتسنى للثوار غير المتفرغين للثورة الخروج من عملهم قبل الانضمام للمليونية.
المليونيات والدعوة إلى العصيان المدني التي تتم الدعوة لها حالياً أثارت استياء بعض من المصريين. سلفيون وأصحاب اتجاهات دينية وصفوها بأنها "فوضى مخالفة للشرع". ليبراليون وأصحاب اتجاهات تميل إلى تأمين لقمة عيش باتت مهددة وصفوها بأنها إدمان لأدرينالين المشاعر الثورية، وهو ما تم الرد عليه ثورياً بلافتة ضخمة مكتوب عليها "نأسف للإزعاج! جاري إعادة بناء مصر!".
لكن إعادة بناء مصر يحتاج إلى تكاتف كل الأيادي، وهو التكاتف الذي يتعرض حالياً وللمرة الأولى منذ تنحي الرئيس السابق مبارك عن الحكم في 11 شباط (فبراير) الماضي للتشكيك. شعار "الجيش والشعب يد واحدة" الذي طبعت منه آلاف الملصقات، ورددته الملايين، مرفوع موقتاً من لافتات التحرير. أحدهم قال ساخراً: "علينا أن نرفع شعار "الشعب والشعب يد واحدة" إلى أن يثبت المجلس العسكري لنا حسن نياته بتحقيق المطالب الثورية".
وعلى رغم أن المطالب الثورية لم تتطرق إلى حرارة الجو القائظة ورطوبته الخانقة التي تصيب يومياً العشرات من المعتصمين والمتظاهرين، إلا أن مئات الـ "تويتس" التي تبث عبر خدمة "تويتر" نصحت المعتصمين بتصفح موقع "سلاش دوت" (مجموعة من مقتحمي أجهزة الكمبيوتر على الإنترنت) الإلكتروني بحثاً عن أسرع الحلول وأكثرها عملية. وتراوحت المقترحات التي يتم إعمال بعضها بين ربط الرؤوس بمناشف مبللة، ورش المياه على المعتصمين من مكان مرتفع، وارتداء الملابس البيضاء الفضفاضة.
ملابس المتظاهرين ليست وحدها الفضفاضة، بل سيناريوات ما يمكن أن يحدث في الميدان، وما يسفر عنه، ومصير الثورة المصرية وشعبها تبقى كذلك فضفاضة.