الثورة من المليونيات إلى العصيان المدني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مصطفى الغزاوي
الثورة قمة النضج البشري عقلا ووجدانا وإرادة
كان الخروج الثاني يوم 8 يوليو إعلانا بثورة ثانية داخل الثورة، تجاوز مجرد المظاهرة، إلى إعلان جديد للثورة الثانية بعد أن استنفدت الموجة الأولى طاقاتها في مقاومة كل محاولات الانقلاب عليها، وحالة الانفلات الأمني، ورغم أن العناوين الأساسية كانت تطالب بالتطهير، أي العودة إلى المربع رقم 1 من عمليات الثورة، غير أنها كانت تعيد إحياء إستراتيجية الثورة "الخبز (العيش) ـ الحرية (الكرامة) ـ العدالة الاجتماعية". كانت شوارع المدن فارغة وقت التجمع، وبدون أي جرائم، وتوقف الانفلات الأمني مع سكون الشرطة بعيدا عن الشوارع ومدرعات الجيش تحمي أقسام الشرطة.
كشفت الأنباء عن محاولات كانت تجري للإعداد لاعتداءات على المتظاهرين وتم إجهاضها، في القاهرة والسويس والإسماعيلية، ودخلت "الغرف التجارية" إلى دائرة التخطيط والتمويل لعناصر البلطجة، إلا أن المظاهرات الشعبية تجنبت الصدام، وفوتت الفرصة على محاولات اختراق التجمعات وتصرفت بعقل بارد وثقافة "أمن المظاهرات" مما أدى إلى نجاح البداية وتأمينها واستمرارها.
التصرفات على الجانب الآخر من المجلس العسكري وحكومة تسيير الأعمال كانت غامضة ووصلت إلى حد الريبة.
نعم تصاعدت بعض الهتافات ضد المجلس العسكري ولكنها كانت تعبر عن لون آخر من الحرب النفسية تديرها عناصر النظام السابق بكافة انتماءاتها ومحورها: ماذا ستفعل الثورة التي لن يتم تمكينها من أهدافها؟، وكأنهم يملكون إستراتيجية المجلس العسكري، وساعد على هذا تصرفات تمت حيال أسر الشهداء أو المتهمين بالقتل وقضايا الكسب غير المشروع.
والتقيت جنرالا سابقا بالطيران في مناسبة اجتماعية مساء يوم السبت 9 يوليو، ورغم العديد من الآراء المنطقية إلا أن الخبر الرئيس الذي كان يؤكد عليه أن الجيش لن يتنازل عن حكم البلاد رغم كل ما يدور من أحاديث داخل المجتمع، وأن مرشحهم هو أحمد شفيق وظل يؤكد ويستدل على حديثه باستفتاء نشره المجلس العسكري حول المرشحين للرئاسة وإضافة اسمي أحمد شفيق وعمر سليمان إلى القائمة التي يجري الاستفتاء حولها.
وصباح الأحد 10 يوليو تناقلت شبكة الإنترنت صورة التقطت في حفل تخريج دفعة جديدة للكلية الجوية، وأحمد شفيق يجلس في منصة الاحتفال بالصف الأول إلى جوار رئيس الأركان المصري.
استفزاز لا حدود له للشعب وإرادته، وكأنه إعلان لموقف مضاد لخيارات الثورة والشعب.
قد يقول قائل إن أحمد شفيق كان حاضرا بصفته قائدا سابقا للقوات الجوية، وهي التي دفعت بطائرتين أف 16 لتحلقا فوق رؤوس المتظاهرين بالتحرير قبل خلع مبارك، كان الحديث يومها أن القوات الجوية تعلن حمايتها للمخلوع، فهل اليوم تعلن القوات الجوية المصرية والمجلس العسكري احتضانهم لأحمد شفيق رغم إرادة الشعب؟، الصورة على أي نحو تزيد من غموض المواقف والريبة تجاه النوايا، وتكاد تعلن موقفا وتتحدى مشاعر الشعب وإرادته التي أقالت شفيق من منصبه كرئيس وزراء عينه مبارك قبل خلعه، واعتبر من رموز النظام السابق وهناك تحقيقات تجري حول اتهامات وجهت إليه أمام الكسب غير المشروع.
رفضت الموجة الأولى للثورة أحمد شفيق، وخرج من الوزارة رغم بكاء د.يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء الحالي على رحيله!!
ظهور الرجل على هذا النحو يؤكد أن هناك تعددا لمراكز القوى داخل المؤسسة، وأن عدم الاستقرار هناك يعكس نفسه على قرارات المجلس واستجابته المترددة لاحتياجات وضرورات المرحلة الانتقالية.
مراحل تعامل المجلس العسكري مع الثورة وأهدافها أثارت من الأسئلة والريبة أكثر مما أكدت على صحة التفهم والانتماء. فهل نحن ذاهبون إلى صراع إرادات جديد، لاختلال في الوعي بما جرى في كونه ثورة شعب، وخلل في فرز العناصر وانتماءاتها؟، سؤال جديد يفتح أبواب جهنم وقد ينتقل بالثورة من كونها ثورة سلمية رغم دماء الشهداء والمصابين، إلى طبيعة جديدة مغايرة جذريا، إن جرى حساب الجيش الوطني في غير خندق الثورة والشعب، وهو ما يلقي على الجيش مسؤولية الحيلولة دون ذلك الاعتقاد فبقدر حاجة الشعب إلى الجيش للحيلولة دون إجهاض الثورة فالجيش يحتاج الجبهة الداخلية المتماسكة في مواجهة العدو.
ويخرج د.عصام شرف على شاشة التلفزيون باختراق ناعم لحالة الصمت التي واجهت المشهد العظيم ليوم الجمعة، وركن في حديثه إلى استجابات لمطالب المحاكمات وإقالة المتهمين بقتل المتظاهرين والإعلان عن إعانات للشهداء والمصابين وتخصيص دوائر لمتابعة المحاكمات دون إجازات.
لم يمس الحديث جوهر قضايا التطهير، مما أفقده البعد السياسي للحديث، وأفقده زمام الأمور وصار الحديث مجرد هرولة خلف مطالب المتظاهرين، وبلغ بالبعض تشبيه الحديث بحديث مبارك الأول بعد 25 يناير، والذي وصل إلى الناس محرضا أكثر منه مقنعا بأنه استوعب الدرس.
فقدان الوزارة الانتقالية للمبادأة وأد احتمالات الحل السياسي ووضع الجميع أمام أزمة لم تصل إلى ذروتها بعد، وافتقاد هذه الفرصة سيؤدي حتما إلى مواجهة قد تسيل فيها مزيد من الدماء، فالتوجه إلى العصيان المدني يعني تعطيل مرافق الحياة في المجتمع، وهو ما قد يستدعي إجراءات للحيلولة دون ذلك، وهو ما سيعود بنا إلى تصرفات الداخلية خلال الأيام الأربعة الأولى للثورة، وعندها فقدت الشرطة السيطرة وانسحبت، لكن كان وراءها قوة أخرى يمكنها السيطرة على الأمور وهي القوات المسلحة، ولكن الوصول إلى نقطة صدام مع الجيش لن تكون لحظة مقبولة ولا هي مطلوبة، واستمرار الصمت دون اتخاذ إجراءات جذرية تنم عن الاستجابة لإستراتيجية الثورة، تدفع إلى الصدام دون بديل.
وفي الوقت الذي كان رئيس الوزراء يتحدث فيه عن قراراته السبعة وأولها إقالة الضباط المتهمين كان وزير الداخلية يتحدث حديثا مغايرا على قناة أخرى، ويهدد بالاستقالة وأنه لن ينفذ قرارات شرف إلا طبقا للقانون، دلالة أخرى على تعدد المحاور والإرادات بين وزراء حكومة تسيير الأعمال، فكيف اتخذ رئيس الوزراء قرارا دون التشاور مع الوزير، نوع من عشوائية القرار.
وظهر يوم الأحد 10 يوليو تظاهر ضباط الشرطة أمام وزارة الداخلية بقيادة ائتلاف ضباط الشرطة وأعلنوا رفضهم قرار رئيس الوزراء بإقالة المتهمين وطالبوا بمحاكمة عادلة لهم.
ويعلم ضباط الشرطة حقيقة عمليات القتل، ومؤامرة إطلاق الرصاص التي أعقبت خلع مبارك، ويعلمون حقيقة القناصة، وأكثر من هذا يعلمون مدى الفساد داخل الجهاز وعناصره، ويرصد ضباط الأمن المركزي في قطاع القناة دور قائد القطاع قبل الثورة في بناء شاليهات وفيلات لقيادات الداخلية على الشاطئ الشمالي لسيناء، وعلى الرغم من ذلك لم يعلن ائتلاف الضباط أو من خارجه من هم قاتلو المتظاهرين بل وتتواطأ بعض عناصر التحقيق مع القتلة، ويطالبون بشهود أن الضابط "س" قتل المتظاهر "ص"، ويطالبون بسلاح القتل وفوارغ الطلقات!!
شواهد لاحتمالات الانقسام داخل المجلس العسكري، وداخل الحكومة، ويمتد إلى مرشحي الرئاسة فيدعو محمد العوا إلى فض الاعتصامات والاكتفاء بالتظاهر، وهو من رفض المظاهرة يوم 8 يوليو وبمجرد تمامها ذهب إليهم ليخطب فيهم، بينما البرادعي يدعو الحكومة إلى اتخاذ قرارات واضحة وقاطعة بالاستجابة إلى مطالب المتظاهرين.
وتتصاعد الحدة في السويس والمستمرة من قبل 8 يوليو وتصل إلى مواجهة بين الشرطة العسكرية والمعتصمين على طريق السخنة عندما أغلقه المتظاهرون، ويحاول آخرون منع استخدام مبنى إدارة الملاحة ببور توفيق ويتدخل الجيش ويقوم باحتلال الموقع، ويبدأ بعض المعتصمين إضرابا عن الطعام، وهو تطور آخر، وتتصاعد المطالب الشعبية بقطع الملاحة في القناة.
وفي الإسكندرية يقطع المعتصمون طريق الكورنيش عند جامع القائد إبراهيم. وفي الإسماعيلية يعتصم المتظاهرون أمام مديرية الأمن، ويحيط الجيش مبنى المحافظة بالأسلاك الشائكة وتحويل الطريق أمامها تحسبا لأي تطورات.
ويغلق المعتصمون في التحرير مبنى "المجمع" الإداري، ويمنعون الموظفين من الدخول، وتتسرب أفكار عن إيقاف خطوط مترو الأنفاق ابتداء من الإثنين، وإن لم يصدر بعد قرار بهذا.
انشطارات عديدة، والجميع يلقي بآخر أوراقه.
مسار المظاهرات يتحول إلى العصيان المدني
والمجلس العسكري يكتفي بردود الفعل وببطء، وينشر صورة لأحمد شفيق في حفل تخرج دون أي داع سوى إرسال رسالة عكسية إلى الثورة.
وحكومة تسيير الأعمال تتخبط وتفتقد القدرة السياسية على إدراك إستراتيجية الثورة وتكتفي بملاحقة المطالب الجزئية للمحاكمات وإعانات للشهداء والمصابين دون تحويل المطالب الأساسية للثورة "خبز ـ حرية ـ عدالة اجتماعية" إلى خطة عمل ومهام قابلة للتنفيذ.
الحديث من الشعب عن الأداء من حيث الاتجاه والمضمون والقوة والمعدل، بينما الحديث المقابل عن الثقة والخطوط الحمراء والصبر. وحوار الطرشان هذا بين الطرفين سيؤدي إلى نقطة أقصى تطور في الأزمة بين الطرفين.
هل هناك من يريد إجهاض الثورة؟ نعم.
هل هناك من يريد تقزيم الثورة عند حدود وعيه القاصر؟ نعم.
هل هناك من يتربص بمصر من الخارج وله في الداخل أنصار وأصحاب مصالح؟ نعم.
هل إستراتيجية الثورة واضحة؟ نعم "الخبز ـ الحرية ـ العدالة الاجتماعية".
هل يمكن تحقيقها؟ نعم.
ما شرط التحقيق؟ أن ينتمي إليها المجلس العسكري مصدر القرار وحكومة انتقالية تستطيع إدراك مسؤولياتها وتعمل على تحقيقها.
هل هناك قوى سياسية قادرة على قيادة الجماهير؟ لا فقد تجاوز الشعب الجميع وسقطت القوى في بئر "الأنا" ملطخة بدماء الشهداء.
هل يملك الشعب بديلا عن التظاهر؟ نعم التظاهر والاعتصام والعصيان المدني.
هل هناك ما ينقص حركة الاعتصام المدني؟ نعم أن ترتقي كل قوى المجتمع إلى ما وصل إليه الشباب والمعتصمون والمتظاهرون في مدن مصر.
الحركة تحتاج في هذه اللحظة كافة النقابات المهنية والعمالية والعمال في المصانع وعلى وجه الخصوص في المحلة الكبرى، والتي تبدو علامة استفهام كبيرة.
انتقل الحوار من أيهما يسبق الآخر، الدستور أم الانتخابات، إلى الحوار كيف نسترد الشرعية الثورية وما الذي يترتب عليها؟
سقطت الأشهر الماضية يوم 8 يوليو وسقطت معها كل محاولات الانحراف بالثورة وكانت أشد المؤامرات التي جاءت من قوى ظلت حبيسة الظلام إلى أن أسقطت الثورة رأس النظام وجهاز الأمن التابع له.
الذين يمضغون الكلمات ويقولون إن الثورة تحتاج إلى العقلاء وليس إلى الثائرين أبدا، هؤلاء لا يعون ما يقولون.
فالثورة قمة النضج البشري، عقلا ووجدانا وإرادة، أما حديث العقلاء فهم يعنون به أن يصيب الثوار خبالا وليس أن يعقلوا أمرهم. العقل الآن يريد الثورة الثانية، ويفرض خيار العصيان المدني، بديلا وحيدا أمام الثوار.
ويبقى بديل في المجهول، أن يأتي من خارج المشهد من ينتمي إلى الثورة ويفرض استيلاؤها على السلطة تجسيدا لإرادة الشعب وواعيا بمهام المرحلة الانتقالية الحقيقية وليس زيف النوايا الذي نعاني منه.