لماذا يضحك هذا الرجل؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سمير عطا الله
أوائل السبعينات ذهب عدنان خاشقجي إلى الخرطوم ومعه وفد من الخبراء. وقدم إلى الحكومة السودانية عرضا مرفقا بمجموعة دراسات وتقارير، عن أول مبادرة من نوعها: تؤمن مجموعة خاشقجي (ترياد) قرضا من 200 مليون دولار، لتطوير وتحديث وتسويق المنتجات الزراعية في جنوب السودان. كانت الدراسات التي وضعت لحساب "ترياد" تؤكد أن الأرض في جنوب السودان هي بين الأخصب في العالم. وثمة ماء غزير ومناخ موائم ويد عاملة. وبما أن بلدان الخليج تفتقر إلى مثل هذه العناصر، فسوف يتحول الجنوب إلى امتداد زراعي للخليج. عملية بسيطة فيها فائدة فورية للفريقين. تم تأمين "القرض" من مجموعة بنوك سعودية، ثم أضيفت إليه كفالة رسمية من مجلس النقد السعودي.
آه، هل قلت كفالة رسمية؟ حك بعض جهابذة الخرطوم أصداغهم وفكروا، فاكتشفوا أن القرض أصبح في هذه الحال بمثابة منحة أو مساعدة. وبدل تدبير المشروع في الجنوب تم تدبير المساعدة في الجيوب. وبعد أربعة أشهر كانت 200 مليون دولار، بقيمتها تلك الأيام، قد ذابت في حر الخرطوم. وذاب معه أول مشروع جدي لتحويل الجنوب من حقل بري متوحش إلى غلال وصوامع وبساتين تملأ العالم العربي.
الآن يأخذ الجنوبيون ربع السودان ويمضون به إلى الجنوب في موسم الهجرة الجديدة إلى الجنوب هذه المرة. ولكن ماذا حدث في هذه الأثناء في الخليج، حيث لا تراب ولا مياه؟ السعودية تصدر الخيار والبندورة والألبان إلى لبنان، والكويت يصدر زهر القرنفل إلى منبعه الأصلي في هولندا. فالذي دمر حياة ومستقبل الأجيال ليس الحكم العسكري بل فساد بعض العسكريين.
كتب قارئ عزيز من الإمارات يعاتبني على تشاؤمي. لماذا يا أخا العرب لا تكتب إلا عن الأشياء غير المفرحة. يا عزيزي يا أخا العرب، هات لي بقعة تفاؤل وخذ عليها مائة مقال. وعد مني. كل فسحة أمل حقيقية بـ 255 مقالا. لكن دون أن تساعدني على العثور على نقطة تفاؤل فلا أمل بي شخصيا بذلك.
أرجوك ألا تفهمني غلطا، كما في القول المأثور للفنان سمير صالح. فأنا في طبعي متفائل على الرغم من كل شيء. لكن لا بد لك من الانتباه إلى أنني أكتب عن حالات الأمة ولست أصنعها. كل ما أملك هو شيء من الحبر وشيء من الورق، في عصر لم يعد يهتم للحبر أو يأبه للورق. وصدف أن المهنة التي ولدت فيها تفرض قول الحقائق. وقد كنت دائما أميل إلى السخرية والدعابة وتجنب جبال الكدر وبحار الغم. لكن يا عزيزي من يتفاءل وسط كل ما تراه، تدق له الناس على التنك وترشقه بالبيض والبندورة. وأنا لا أريد لك هذا العمل المتعب. الحل في أن تعود إلى قراءة مجموعات سعيد فريحة وإبراهيم المازني ومحمود السعدني، فقد عاشوا في زمن لم تكن فيه الابتسامة تطرح سؤالا فوريا: لماذا يضحك هذا الرجل؟