جريدة الجرائد

الصحوة .. محاربون أم حقوقيون؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مشاري الذايدي

من الملاحظات على خطاب التيارات الأصولية، قبيل "الثورات" العربية الأخيرة، وأثناءها، وبعدها طبعا، ظهور اللغة الحقوقية الديمقراطية، بشكل متواتر ومتزايد، على حساب اللغة العقائدية الحاسمة والقاطعة: لغة الحاكمية ،و دار الحرب ودار الاسلام، لغة المفاصلة والنفرة والجهاد وتحكيم الشريعة، وملاحقة المرتدين والعلمانيين والمبتدعة... وغير ذلك من المفردات والمعاني التي تصب في جعبة المحارب وليس في حقيبة الحقوقي.

حسما للجدل، من المؤكد أن "الحالات" مختلفة في الدرجة بين بلد وبلد، وبين تيار هنا أو هناك، فالمنظرون من إسلاميي مصر أو تونس أو المغرب، مثلا، أبكر زمنا وأعمق تنظيرا من نظرائهم في دول الخليج، وأكثر جرأة طبعا، لعدة أسباب منها الاحتكاك المستمر بسجالات خصومهم من التيارات المخالفة. وتيارات الأصولية السياسية في الخليج ليست على حال واحد أيضا، ثمة فوارق ملموسة، وإن كانت طفيفة، بين تنظير الإخوان، بل حتى السلفيين، في الكويت حول الديمقراطية والتشريع النيابي وحقوق الطوائف الأخرى (الشيعة) قياسا بنظرائهم في السعودية مثلا.

بكل حال، الآن المسافات تتقارب كثيرا للوصول إلى ارض سواء للتصالح مع فكرة الديمقراطية، التصالح من الناحية "التأصيلية" وتجذير الديمقراطية في النسيج الفقهي القديم، كما تجذير واستزراع مفاهيم أخرى مرتبطة بها مثل التسامح الديني، وفكرة المواطنة على أساس الرابطة الوطنية لا العقائدية، وفكرة سيادة القانون وترك التحسس من الإيحاءات التي تحملها كلمة "التشريع" او القانون.

لتتضح الصورة أكثر، ولأن الحديث متشعب في رصد هذا التحول في المشهد، أحصر حديثي بمثال من المشهد السعودي.

مؤخرا سجل احد "الدعاة" من المنتمين لتيار "الصحوة"، وهو اللقب المعروف هناك للتيار الأصولي المسيس، خطبة على الانترنت يخاطب فيها القيادة السعودية، وخلاصة خطبته تحذير الدولة من إيقاف النساء في السجون، بحجة أن النساء لهن وضعية خاصة في الدين، حسب فهمه طبعا، كما في الثقافة الاجتماعية المحافظة، وأفاض في ذلك، ثم انعطف للحديث عن المؤاخذات النظامية - أي القانونية - على إيقاف بعض المساجين على ذمة بعض القضايا الدينية - الأمنية، معللا اعتراضه بعدة علل، الذي يهمنا منها هنا المطالبة بإجراء محاكمة لهم وتحديد مدد ايقافهم التحفظي، وغير ذلك من التفاصيل مستندا إلى نظام الإجراءات الجزائية بشكل كبير، كما إلى النظام الأساسي للحكم.

وقبل الدخول في مناقشة موجزة لهذا الكلام، أوضح بشكل حاسم أنه من حق أي إنسان، مهما كان جرمه أو الاتهامات الموجهة له، أن يحظى بمحاكمة عادلة، حتى ولو قتل المئات أو حمل السلاح، فالدولة القوية هي التي يكون قضاؤها نزيها ومساويا بين الجميع. فلا خلاف أبدا حول هذه النقطة، إذن.

يبقى هنا التساؤل حول أمرين مهمين في مضمون وجوهر ما طرحه هذا الداعية الإسلامي، أو غيره، وإن كانوا (نعني غيره) بطريقة أقل إقناعا وأكثر حماسة.

التساؤل الأول: لماذا الآن، وبشكل متوافق، ومتواتر ثارت هذه الحملة فيما سمي بقضية المعتقلين، وهم كلهم، أي من يتم الدفاع عنهم، من طبيعة واحدة، وكلهم ينتمون إلى فكر واحد، بشكل أو بآخر؟

حتى أوضح أكثر: لماذا لم نر هذه الحماسة وهذه المرافعات الأخيرة والمتواترة حول من تم ايقافهم في الماضي من غير أبناء التيار الصحوي؟! رغم أن نظام الإجراءات الجزائية ليس وليد هذا اليوم او هذا الشهر؟! بل لماذا لم تثر هذه الحماسة الآن حول قضية السيدة التي قادت سيارتها في المنطقة الشرقية؟!

الأمر، على الأقل كما افهمه، ليس له علاقة بحماسة بريئة ونقية وخالصة لوجه العدالة وتفعيل الأنظمة المرعية، بل هو "نخوة" آيديولوجية بحتة، تلحفت فقط برداء حقوقي.

قد يكون الأمر كما قال لي شخص حاد الملاحظة: لماذا لا يكون إثارة هذه الحملات بشكل كثيف وسريع حاليا بغرض التغطية على المحاكمات المتوالية التي تجري هذه الايام لبعض المنسوبين لهذا التيار، على ملاك عدة قضايا، هي منظورة ولم تغلق بعد أمام القضاء.. والإعلام يتابع؟!

مرة أخرى، الطلب بتفعيل قواعد العدالة وسلامة التواؤم مع الإجراءات الجزائية وكيفية القبض والتحفظ، هو طلب عادل ومحق، ولكنه يجب أن يكون للجميع، وليس بغرض الاستخدام السياسي المؤقت أو الانتقائي.

نحن امام نمو ملحوظ في البنية العدلية في البلاد، وهناك خطوات جيدة يجب ان نقوم بتشجيعها، وتعميمها، مثل علنية المحاكمات في قضايا ذات طابع حساس مثل قضايا الإرهاب، ولا يجوز ان يتم إحباطها او توظيفها لصالح أجندات تيارية أو "فزعات" حزبية.

نعم، ما زال المشوار في بدايته، رغم أنها بداية قوية وانطلاقة شجاعة، ولا نلغي دور السابقين طبعا، فالتاريخ يبنى بالتراكم، ولا يجوز ان تقف الأمور عند هذا الحد، ولكن يجب علينا التمييز الشديد بين الأغراض المتشابكة في هذا الضجيج الإعلامي والانترنتي العالي، حتى نقدر على تمييز الأصوات والنغمات، فهناك من أهل الكلام الحقوقي المعلن من يغني على ليلاه فقط!

التساؤل الثاني حول الخطبة السالف ذكرها: هو الطلب الغريب من الدولة بأن "تراعي" خصوصية المرأة، بلغة عاطفية مستدرة للمدامع وللنخوة والشهامة.

لا خلاف على الشهامة، بالمعنى العام لها، وحق أهل المعتقل، بمن فيهم نساء أسرته، في التعرف على مصير ذويهن، وإجراء محاكمة عادلة لهن، لكن أليس من الوارد أن يكون بعض، على الأقل بعض، هؤلاء المعتقلين قد ارتكب جرما بالفعل؟! فهل يتم التعاطف معه وإطلاق سراحه فقط لأن زوجته أو ابنته أو أمه بكت عليه وتعتقد انه بريء حقا؟!

كل مسجون في العالم، سواء أدين او لم يدن بجريمة، له من يتعاطف معه ويعتقد أنه بريء، خصوصا الأهل ونساء الأسرة، فهل يؤخذ بمشاعرهن كحجة دامغة ودليل قاطع على جور السلطات بسجنهم؟!

هذا كلام ينتمي إلى عالم الشعر والعاطفة وليس الى عالم القانون والواقع.

نعم المطلب الحق، والذي يجب أن يؤخذ على أي دولة في العالم، هو السجن دون محاكمات عادلة، أما إثارة العواطف العامة بخطاب شعري مطعم ببعض النصوص الدينية التي توصي خيرا بالنساء وغير ذلك، فليس إلا تعبئة عاطفية فقط.

هذا فيما يخص النساء المتعاطفات مع ذويهن المعتقلين، ويصبح الأمر أكثر غرابة حين ترى حملات عاطفية لمجرد أن ثمة امرأة اعتقلت، وكأن هذا الأمر جريمة إنسانية، هكذا بإطلاق..

والسؤال هنا: هل المرأة معفاة من المحاسبة والملاحقة والعقوبة لمجرد أنها امرأة؟! هل لا تسرق المرأة، ولا تقتل، ولا تقدم على فعل أي جناية؟!

لا العقل يقول ذلك، ولا الواقع المشاهد، ولا القانون، أي قانون في العالم، ولا الشريعة، فالأصل المساواة في المسؤولية والحقوق والواجبات، والاستثناء هو الاستثناء! وكيف يغيب عن البال نساء فاعلات في تنظيم القاعدة السعودي أمثال وفاء، وهيلة وغيرهما؟

هذا المنطق الذي يريد إخراج المرأة، لمجرد كونها من جنس النساء، من دائرة السلطة القانونية، وهو أمر في الحقيقة، لو تأمله الإنسان، فيه امتهان شديد لذات المرأة، فهي دون مستوى المساءلة، أسوة بالطفل الغرير والمجنون... والأغرب أن ثمة من ينساق خلف هذا الخطاب العاطفي ممن يقدم نفسه بوصفه منحازا للقيم الإنسانية والعدالة والمساواة بين الجميع.

بكلمة وجيزة، هناك تلبك في معدة الخطاب الصحوي المحلي، خصوصا نسخته "الاحتسابية" ذات الصوت العالي في هضم فكرة الحقوق المدنية؛ فمن طرف ثمة رفض عميق لها بسبب حمولاتها البعيدة هناك في الغرب حيث نشأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) وغيره من الوثائق الإنسانية العظمى، وحيث المواثيق الدولية التي ترعاها الأمم المتحدة، والدول المنضوية فيها، وهي كلها منبعثة من أفكار التنوير والنهضة، ومن طرف آخر ثمة رغبة "آنية" وانتفاعية في توظيف هذه المعاني واستثمار الزخم الشعبي والإعلامي الحالي لها باتجاه مصالح ومنافع هذه التيارات ومن يحازبها.

حتى يتميز الغث من السمين، ليس لنا إلا الأمل باستمرار تفعيل القيم النقية لهذه الأفكار الكبرى حول العدالة ودولة الحقوق والواجبات، التي هي مطالب كل البشر، وحق الجميع بالمساواة ورفع الظلم، حتى يكتمل نور الصباح.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف