جريدة الجرائد

الخوف من الحرية وصناعته

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بشير موسى نافع


ليس ثمة استقرار كذلك الذي تقيمه أنظمة الاستبداد. في ظل الاستبداد، وبغض النظر عما إن كان النظام يجسد حكم عشيرة أو طائفة أو فئة اجتماعية أو عسكرية، يسود صمت مريب، ولا يخشى الناس المستقبل أكثر من خشيتهم ليومهم؛ لأن من المتيقن أن الغد لن يحمل جديداً مهما كان. في ظل الاستبداد، لا يجب أن يخاف أحد من ثورة عشائرية على العشيرة الحاكمة، أو اندلاع تمرد طائفي، أو قيام أقلية قومية بالمطالبة بحقوق المواطنة، أو خروج اتحاد عمالي لتوكيد حقوق منتسبيه، أو تظاهر منظمة مدنية للمطالبة بالحقوق الدستورية للشعب. وحتى إن شهدت البلاد شيئاً من هذا القبيل، فسرعان ما يتكفل النظام بحصاره أو إخماده أو اقتلاع من حاوله من جذورهم، للتأكد من أن أحداً لن يعكر صفو التوافق الاجتماعي أو يخل بأمن البلاد وراحة المواطنين. في ظل الاستبداد، يسود شعور بالطمأنينة، طمأنينة زائفة، قد يدعي البعض، ولكنها طمأنينة على أية حال. ولذا، فليس من الغريب أن تثير الحرية الخوف، أو أن تؤسس لمناخ يسمح بإثارة الخوف.
تحكم أنظمة الاستبداد سيطرتها بحزمة وراء الأخرى من الإجراءات والأدوات والوسائل، تعمل على تأسيس شرعية ما، وديمومة طاعة الشعب وخضوعه لسلطة الحكم والدولة، بداية من خطاب رسمي، يعكس متطلبات السيطرة ويحاول إقامة فضاء مشترك بين الحكم والشعب، إلى أجهزة أمن، تتعهد مهمات الرقابة والعقاب، وصولاً إلى مؤسسة عسكرية، تعتبر جدار الحكم الأخير ومستودع قوته الاحتياطي الأكبر. لا تنطلق الثورة ضد أنظمة الاستبداد بدون انهيار شرعية خطاب الحكم وتقويض سلطته المعنوية. وبانهيار الخطاب الرسمي، تأخذ منظومات التحكم والتسلط الاخرى في الانهيار، في صراع متعدد الأوجه والأبعاد، يتعلق بتوازنات القوى الاجتماعية والسياسية الداخلية فحسب، كما علاقات النظام وتحالفاته الخارجية. ولكن تقدم المجتمعات نحو فضاء الحرية ليس فعلاً معقماً أو طريقاً واضح المعالم والمسارات، بل حركة بالغة التعقيد من المطالب الفئوية المتدافعة والمتناقضة أحياناً، من صدام الحاجات والطموحات، من سلوك اجتماعي متدرب وهموم كهولة مثقلة، ومن البرامج والتصورات السياسية المختلفة. اندلاع الصراع والتدافع حول المستقبل هو في حد ذاته مولد طبيعي للخوف، وما أن تفتح نافذة ولو صغيرة للحرية حتى تتزايد المخاوف.
في المجتمعات التي تتمتع بتعددية طائفية وإثنية، تثير الحرية خوف الطوائف من بعضها البعض. الأكثريات الطائفية تخاف مطالب الأقليات، وسيطرتها وسعيها الدؤوب والتلقائي لتوكيد وجودها. ولكن الأقليات الطائفية أكثر خوفاً، سيما في البلاد التي عاشت، فعلاً أو تصوراً، هيمنة الأقلية على مقادير الحكم. كل الأكثريات تثير الخوف، ولكن الخوف من الأكثرية الطائفية هو خوف مضاعف، للتداخل المستبطن في علاقات الطوائف بين المقدس، من ناحية، والسياسي الاجتماعي، من ناحية أخرى. وقد شهدت بلدان المشرق العربي الإسلامي في القرنين الآخيرين، وبدرجات متفاوتة الحدة والسرعة، قطيعة ما بين الميراث التقليدي لمنظومة العلاقات الطائفية وبين النمط السياسي الحديث للدولة. في المنظومة التقليدية، عاشت الطوائف في العموم حيوات مستقلة عن بعضها البعض، يفصل بينها نظام ملل مستقر للحقوق والواجبات. وبالرغم من أن نظام الملل يوصف أحياناً بأنه نظام تهميشي، اشتغل في أغلب الأوقات لصالح الأغلبية السنية، إلا أن الحقيقة أنه وفر الحماية كذلك للفئات والطوائف الدينية المختلفة وحافظ على كينونتها.
بنهاية النظام التقليدي للحكم والاجتماع السياسي منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وولادة الدولة الحديثة ومفهوم المواطنة، أخذت الجدران بين الطوائف في الانحسار، بدون أن يقضى كلية على الموروث النفسي والثقافي لنظام الملل. وهنا بدأ التوتر بين الحقوق والواجبات في التحول إلى صراع سياسي واجتماعي محتدم في بعض الأحيان. لا احتفظ المشرق بالفواصل المحددة لنظام الملل والسلم الاجتماعي الطويل الذي حققه، ولا أنجز منظومة مواطنة مدنية من المساواة الفعلية أمام الدولة والقانون. وبالاقتراب من عتبة الحرية، تعود مسألة الطوائف والجماعات الدينية في المشرق من جديد، ويتصاعد الخوف لدى كل واحدة منها من الأخرى.
وإن اختلفت المسألة القومية - الإثنية في التفاصيل والدوافع، فليست أقل مدعاة للخوف. فمنذ ولدت الفكرة القومية في المشرق في نهاية القرن التاسع عشر وشعوب هذه المنطقة من العالم، كما كل مناطق التعدديات الإثنية والقومية، تعيش أزمة مستمرة. لم تكن الشعوب هي التي وضعت حدود دول المشرق، التي رسمت أغلبها في النصف الأول من القرن العشرين، بمحض إرادتها؛ وربما حتى لو ترك الخيار للشعوب، ما كان من المتوقع أن تستطيع إيجاد حل دائم ومرض للمسألة القومية. وجد العرب، مثلاً، سيما في المشرق العربي، حيث تجلت الحركة العربية للمرة الأولى، أن كيانات ما بعد الحرب العالمية الأولى لم تستجب لطموحاتهم القومية. وما أن اتسع نطاق الحركة العربية في فترة ما بين الحربين، وأصبحت الفكرة العربية القومية أكثر راديكالية، حتى بدأت ردود فعل قومية أخرى في التجلي، أبرزها بالطبع الحركة القومية الكردية في المشرق، ونظيرتها الأمازيغية في المغرب. ثمة قدر من الظلم والتجاهل شهدته المنطقة العربية للطموحات الثقافية الكردية والأمازيغية، وغيرها من الجماعات القومية، وقدر لا يقل من التطرف والعنف شاب التعبيرات القومية غير العربية في المجال العربي المشرقي (كما في بلاد الجوار، مثل تركيا وإيران). وتعيد رياح الحرية التي يشهدها عدد من البلاد العربية، اليوم، طرح المسالة القومية كما لم تطرح منذ زمن، أو على الأقل منذ حرب الخليج الأولى وضمان القوى الغربية للمنطقة الكردية الآمنة في شمال العراق.
بيد أن المخاوف التي تصاحب التحول السياسي من مناخ ونظام الاستبداد إلى الحرية، لا تقتصر على خطوط التوتر الطائفية والقومية، بل وتتعلق أيضاً بالتعددية الفكرية السياسية في المجتمعات العربية. في ظل أنظمة الاستبداد، لم تتعرف القوى السياسية على بعضها البعض في صورة صحية، ولا اعتادت التداول السلمي على الحكم أو العمل المشترك في إدارة شؤون البلاد. ولدت التيارات السياسية أصلاً في لحظة تأزم المجتمعات العربية وانهيار إجماعها، وطوال أكثر من قرن اتسمت علاقات القوى بقدر واسع من العنف والإلغاء. وقد عمل الصعود المثير للقوى الإسلامية السياسية في عقدي السبعينات والثمانينات، وتوجه مجموعات إسلامية إلى العمل المسلح، على تصاعد التوتر بين القوى السياسية المختلفة في معظم الدول العربية. ما يعد به مناخ الثورة العربية اليوم ليس تعزيز الحريات وحسب، بل وتسلم الشعوب مقاليد أمرها؛ بمعنى أن يكون للأكثرية الحق في تقرير مسار البلاد، لهذه الفترة أو تلك. وهذا ما يفتح الباب للمخاوف والاسئلة المتعلقة بمن هي الأكثرية السياسية على وجه اليقين، وكيف سترسم القوى الممثلة للأكثرية الانتخابية سلوكها تجاه القوى السياسية الأخرى، وهل يمكن أصلاً لمجتمعات سياسية متعددة الأصوات والاتجاهات أن تطمئن لسلطة أكثرية لم تجرب من قبل، وفي حال تطلبت عملية التغيير والانتقال السياسي وضع نص دستوري مرجعي جديد، من يملك الحق في كتابة الدستور، وغيرها من الأسئلة.
وليس ثمة شك في أن كل البلاد العربية التي تعيش مناخ الثورة والتغيير، من تونس ومصر، إلى ليبيا واليمن وسورية، تنتابها في الوقت نفسه المخاوف المصاحبة لآمال الحرية التي أنعشتها رياح الثورة والتغيير. الليبراليون والعلمانيون العرب في مصر وتونس، وحتى في ليبيا وسورية، بكافة تنوعاتهم السياسية، يخافون صعود القوى الإسلامية السياسية، ويخشون أن يؤدي هذا الصعود إلى تقليص مساحات الحرية التي تعد بها الثورة والتغيير. ويخاف الإسلاميون ما يصفونه بسطوة الأقلية الليبرالية والعلمانية والدعم الخفي والمعلن الذي تتلقاه من القوى الغربية. الأكراد السوريون، الذين شاركوا في فعاليات الثورة السورية منذ أيامها الأولى، يتصورون أن يؤدي التغيير الديمقراطي في سورية إلى تلبية مطالبهم، جملة وتفصيلاً، ويخشون إن أفلتت منهم هذه الفرصة أن لا تعود مرة ثانية بعد عشرات السنين؛ والقوى السياسية العربية السورية ترى في الكثير من المطالب الكردية ابتزازاً صريحاً للأغلبية العربية، وتخشى أن تنحدر سورية إلى طريق الانقسام والتشظي الذي يعيشه العراق. ما يفاقم مخاوف الكثير من السوريين أن الثورة لم تفتح الملف الكردي وحسب، بل وصعدت من التوتر الطائفي في البلاد، سواء بفعل جهود مخططة من قبل دوائر النظام الحاكم، أو بفعل مخاوف وترسبات تاريخية في العلاقة بين الأغلبية السنية والأقلية العلوية، لم تنجح ثقافة المواطنة السورية في احتوائها كلية.
ليس ثمة حرية بلا خوف، ولا حرية بدون قدر من فقدان اليقين ودرجات متفاوتة من انهيار الاستقرار. في الطريق إلى الحرية لن يكون هناك قتلى وجرحى وحسب، بل وتراجع اقتصادي وتوتر أمني واسع النطاق وانفجارات اجتماعية مختلفة. إثارة المخاوف المتبادلة بين الطوائف والجماعات القومية وقوى السياسية هي أداة تقليدية لحرب أنظمة الاستبداد ضد شعبها؛ وهي أيضاً إفراز طبيعي ومتوقع لتعدديات لم تتعود الحوار والتعايش. ولكن الحرية هي أيضاً العلاج الأكثر نجاعة والطريق الأقصر للتعامل مع المخاوف الطائفية والقومية والسياسية التي يولدها مناخ الانتقال من صمت الاستبداد المطبق إلى ضجيج الحرية. وقد تجد بلدان عربية من الصعب والعسير أن تعيد بناء الإجماع الذي يتطلبه الاستقرار، وتأمين المستوى الضروري من اليقين، ولكنها حالما استطاعت تحقيق هذا الهدف، ستكون قد أنجزت انتقالاً تاريخياً هائلاً في مصيرها.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف