بوصلة الثورات!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يوسف الديني
يعول كثير من المتأملين في شأن الاحتجاجات (الثورات) العربية على شهر رمضان في قدرته على إعادة فحص الثورات وإمكانات بقائها أو تحقيقها لأهدافها، تلك الثورات في شقها المنجز كمصر وتونس، أو غير المكتمل كاليمن وإلى حد ما المناطق التي يستقر فيها ثوار ليبيا بشكل مستدام، هذا إذا ما اعتبرنا أن ما يحدث في سوريا الآن قد خرج عن منطق الثورة وممانعتها بالقوة إلى فوضى السلطة التي تقترب من فعل الإبادة والتطهير على مفرزة مع النظام أو ضده.
هذا التعويل على رمضان من وجهة نظري لن تكون له سوى أبعاد رمزية، فإذا كان الصيام ووظائف رمضان الاجتماعية قد تصبح عائقا عن فعالية الثورة على الأرض، فإنها وبنفس الدرجة قد تكون حافزا على استغلال هذا الموسم بما يخلقه من حوافز نفسية عالية لدعم الاحتجاجات عبر مختلف المناشط الدينية وعلى رأسها الصلوات وموائد الإفطار.
وعلى الرغم من رمزية التأثير الرمضاني على الثورات، فإنه من الواضح أن "الحالة المصرية" باتت بوصلة الثورات المكانية التي سيتجاوز تأثير ما يحدث فيها من تجاذبات على رسم ملامح ما بعد الثورة باقي البلدان الثائرة ليتعداها إلى غيرها.
مركزية مصر أو أهميتها الاستراتيجية، حتى بعدما انكفأت على ذاتها في السنوات الأخيرة من فترة الرئيس السابق، ليست بحاجة إلى تدليل، لكن تلك الأهمية أو الثقل المعنوي والاستراتيجي اكتسب زخما أكبر في مرحلة ما بعد الثورة عطفا على "مثالية" الثورة التي جعلتها تقترب من حالة "اللغز"، ووصولا إلى قدرتها رغم كل العوائق على خلق الدافع في باقي النماذج، ويمكن الحديث هنا عن حدث لا يقل "مثالية" عن فعل الثورة نفسه وهو قدرة مجموعات من الأحزاب السياسية الشابة بدعم من الشارع على المطالبة بالتغيير الوزاري الذي فرض تعديلات جذرية على الحكومة، وهو الأمر الذي تعامل معه المجلس العسكري بذكاء من خلال استجابته وعبر حكومة عصام شرف، مما أوحى بأن هذه المجموعات الحديثة والصغيرة، إذا ما قارناها بتكتلات الإسلاميين من "الإخوان" والسلفيين، استطاعت إحداث الفرق.
"يا فرحة ما تمت"، عبارة يرددها المصريون كثيرا في التعبير عن حالة من الندم والاستياء عندما لا تسير الأمور بشكل جيد أو كما كان يرتب له، وهو الأمر الذي عاشته أحزاب الشباب الذين يرون أنهم أبناء الثورة الشرعيين بعد أحداث الجمعة الأخيرة، وما بعدها من تصريحات من قوى إسلامية تابعة لـ"الإخوان" والسلفيين بشكل أكبر، وربما من البديهي القول إن الحالة المصرية منذ سنوات حدثت لها عملية انزياح كبرى، حيث "تسلفنت" مجموعات إخوانية، ودخل السلفيون باب السياسة ليس بشكل أصيل ولكن من زاوية الاحتراب على الجماهير الذي عادة ما يقود إلى معارك كلامية ضارية بين الطرفين.
معارك مثل هذه تحصد في طريقها القوى السياسية الصغيرة التي لا تحظى بجماهيرية عريضة، وهو الأمر الذي ظهر في الجمعة الأخيرة، حيث التلويح بالانسحاب أو ممارسته لم يؤثر في المشهد كثيرا إلا من حيث تناول وسائل الإعلام له كحدث انقسامي في الثورة المصرية لكنه على الأرض لم يشكل فارقا، فغياب النخبة كما هو معلوم في مخاض الثورات يؤدي إلى نتائج عكسية، لأن طبيعة الثورات هي تكتلات كمية وليست نوعية.
ذكاء المجلس العسكري هو أنه يمارس جزءا مما يمكن تسميته بـ"الديكتاتورية الناعمة"، حيث يحاول فرض هيبته على الأحزاب الصغيرة الفاعلة إعلاميا عبر التضييق عليها بشكل قانوني على نحو يشبه ممارسات السلطة المتعالية التي تراقب من دون أن تسمح بأن يمسها من غبار المتعاركين شيء، وهو ما يطرح السؤال حول دور المجلس في ما يقال إنه مرحلة الانتقال للديمقراطية، في ظل أن ممارساته، ومنها اعتقال الصحافيين ونشطاء من شباب الثورة، تدل على أنه يؤسس لحالة السلطة المتعالية التي تعطي جرعات محددة من الديمقراطية التي تهيأ البلاد لابتلاعها من دون أن تغص بها، الأمر الذي يرى فيه المتقاعدون عن الثورة شكلا إيجابيا من رعاية حالة بعد الثورة.. هؤلاء المتقاعدون هم طبقة جديدة بدأت تشق طريقها وتعبر عن حالة الاستياء من طول أمد الثورة، وتقدم قراءة استباقية للانعكاسات الاقتصادية والأمنية التي ستؤول إليها الأوضاع في حال تأخرت التسوية السياسية المرضية لجميع الأطراف.
الأكيد أن إجراء الانتخابات في سبتمبر (أيلول) القادم، وما تبعه من رغبة في تأجيل كتابة الدستور، سيزيد من فرصة تعزيز قوة الجيش اعتمادا على أن سيناريو كهذا سيزيد من حظوظ الإسلاميين ويرضي نهم وعجلة المتقاعدين عن الثورة والمتوقفين فيها وأتباع النظام السابق الذين تجمع بينهم حالة التململ من الأوضاع الحالية.
إذا ما استطاع الجيش أن يسير الأمور على هذه الطريقة وبنفس مهارات ضابط الإيقاع المحترف فإن نهاية معزوفة الثورة ستكون تدشينا لمرحلة المستبد المحايد والذي بفضل امتيازاته السلطوية والاقتصادية الهائلة ينظر لنفسه أمينا على مكتسبات الثورة وليس منافسا على غنائمها، الأمر الذي يرى فيه بعض الإسلاميين، والسلفيون منهم على وجه الخصوص، مخرجا آمنا يخلصهم من أعدائهم على الأرض من الأحزاب العلمانية بتفرعاتها، ولسان حال الإسلاميين في هذا السياق يقول إن الثورة السياسية تستحق تغييرا سياسيا وليس ثقافيا أو فكريا يجعل من خطيئة الديمقراطية بالأمس مكتسبا للأمة اليوم، وفي أحسن الأحوال نموذجا على الطريقة المصرية لأردوغان!