جريدة الجرائد

لندن تحترق!!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

سعيد حارب

من زار متحف الشمع أو "مدام تسوت" في لندن سيمر بعد انتهائه من زيارة المتحف بـ "البانوراما" التي تؤرخ لمدينة لندن، حيث يمر بأهم المراحل التاريخية لهذه المدينة عبر العصور منذ كانت مدينة صغيرة، وحتى تحولها إلى مدينة كبيرة على يد الساكسون بقيادة "إدوارد المعترف" عام 1035، والذي أعاد بناء كنيسة ويستمنستر، التي لا تزال قائمة حتى اليوم. وأثناء الجولة سيسمع السائح وهو يمر بإحدى المراحل صراخا وأصواتا تردد London... burning.. أي لندن تحترق، ويمثل المشهد الحريق الكبير الذي اجتاح لندن عام 1666 وأدى إلى احتراق أجزاء كبيرة من المدينة وتشريد 80 ألفا من سكانها. إن مشاهد الحرائق والاضطرابات التي شهدتها لندن في الأيام الماضية تعيد إلى الأذهان ذلك الحريق، مع اختلاف في المرحلة التاريخية والظروف الاجتماعية، فلندن اليوم ليست كما كانت في القرون الوسطى، فسكانها الذين تجاوزوا الثمانية ملايين يشكلون خليطا من الأعراق والثقافات والألوان، كما أنها أكبر مدينة أوروبية، وأحد مطاراتها هو أكبر مطار في العالم، وهي مدينة المال والأعمال الرئيسية، وهي المدينة "الأرستقراطية" الأولى في العالم، وغيرها من الصفات، فما الذي يجعل شبانها ينطلقون في الشوارع لتدميرها، ثم ينقلون "حريقهم" إلى مدن بريطانية أخرى؟ ورغم أن قتل أحد الشبان السود هو الذي أطلق شرارة الأحداث، فإن الأمر تجاوز حين تحول من قضية حقوقية إلى صورة من أعمال النهب والحرق والتخريب، في مشهد لم يتخيله أحد في مجتمع يتمتع بكثير من سيادة القانون. ورغم الأسباب المباشرة التي أسهمت في الأحداث وهي الأسباب الاقتصادية التي يعيشها قطاع من البريطانيين خاصة الشبان منهم، فإن عملية التخريب والنهب كانت تمثل حالة نفسية واجتماعية وليست حالة اقتصادية فقط، فأعمال الشغب شملت جميع المكونات الاجتماعية للشعب البريطاني، فلم تقتصر على المهاجرين السود أو الآسيويين فقط بل شملت سكان البلاد الأصليين، كما أنها لم تقتصر على ثقافة أو ديانة محددة، إلى جانب أن عمليات النهب لم تمثل للمشاركين فيها حالة "إجرامية"، وإنما كانت نوعا من اقتناص الفرصة للحصول على "حق الرفاه" كما يحصل عليه الأغنياء في المجتمع. يقول الكاتب "جوناثان فريدلاند" في مقال له في "واشنطن بوست": إن كل الأعراق البريطانية ممثلة في صفوف المحتجين الذين يقومون بأعمال السلب والنهب، وإن هذه الأعمال لا تجري لأسباب سياسية، فالمحتجون لم يقذفوا الحجارة تجاه مراكز الشرطة أو الدوائر الحكومية أو البرلمان، ولكنهم أحرقوا المحال التجارية خاصة تلك التي تبيع أجهزة الهاتف النقال والأحذية الخفيفة وشاشات التلفزة العريضة. وأشار إلى أن واحدة من المحتجين شوهدت وهي تقيس الأحذية وتحاول أن تسرق الحذاء الذي يناسب مقاس رجليها!!، ولا شك أن سلوكا مثل هذا يدل على أن من يقوم به لا يشعر بـ "جرم" عمله، وهي حالة تعبر عن فقد للقيم الاجتماعية التي يجب أن تحكم سلوك الفرد تجاه الآخرين في المجتمع. تقول الكاتبة "آن آبلباوم" في "الغارديان"، إن المؤسسات التقليدية وهي النظام المدرسي والكنائس وحتى "بي.بي.سي" فقدت منذ زمن طويل قدرتها على نقل القيم القديمة"، وهذا ما أقر به رئيس الوزراء البريطاني "ديفيد كاميرون" حين قال في أول تصريح له بعد الأحداث "إننا فقدنا كثيرا من قيمنا الاجتماعية"، ولعل هذه الإشارة تؤكد ما ذهب إليه علماء الاجتماع والنفس الذين حللوا هذه الظاهرة، بالتأكيد على أن هناك أسبابا اقتصادية أدت إلى هذه الإضرابات، لكن البنية الاجتماعية هي التي صنعت بيئة ملائمة لجيل يشعر بالحرمان لكنه يشعر أكثر بأنه لم يعد ينتمي لجيل آبائه أو قادته السياسيين، فالأجيال الجديدة في بريطانيا بل في معظم دول العالم تجد أن الفارق بينها وبين من سبقها قد اتسع، بحيث لم يعد هناك مجال للتواصل بينها، متسلحة بالتكنولوجيا الحديثة وبالتحولات في حياتها العامة والشخصية، فهذه الأجيال لم يعد كثير منها يصغي لنصائح الآباء أو رجال الدين أو توجيهات السياسيين أو يقرأ لشكسبير أو فولتير أو همنجواي أو يستمع لموسيقى بيتهوفن أو موزات أو غيرهم من الكتاب والفنانين الذين يصفونهم بالتقليديين، بل حلت محلهم موسيقى الروك أندرول والهيفي ميتال Heavy Metal التي تتحدث عن الموت والانتحار والحزن والشياطين والحروب والوثنية وغيرها من معاني الرفض التي تدعو للعنف والتدمير، ولا شك أن الشعور بعدم الانتماء للمجتمع يساعد على إذكاء الرفض لكل ما هو اجتماعي، ويسهل بذلك إيجاد أي مبرر للتدمير والتخريب، وهي حالة لا تنطبق على المجتمع البريطاني بل تسود معظم المجتمعات البشرية، لكنها تتفاوت بمقدار قدرة تلك المجتمعات على ترسيخ قيمها الاجتماعية والأخلاقية في أجيالها، ولذا فإن محاولة بعض العرب الربط بين ثوراتهم العربية والاضطرابات في بريطانيا -سلبا أو إيجابا- إنما تأتي من باب البحث عن "القرين" لا البحث عن الأسباب الحقيقية لكل حالة، فالحالة العربية هي ثورات سياسية دفعت إليها أسباب اجتماعية واقتصادية تختلف عما حدث في بريطانيا، مهما حاول البعض استغلال ذلك ووصفه بـ "الثورة"، كما جاء في أحد التلفزيونات العربية، حين أعلنت أن "ثوار بريطانيا على مشارف ليفربول في معارك كر وفر مع كتائب كاميرون ومرتزقة من أيرلندا واسكتلندا.. الله أكبر". وكأنها تقول: رمتني بدائها وانسلّت!!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف