جريدة الجرائد

"البلطجة" ... آفة الثورات العربية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عمّار علي حسن


على مدار سير أحداث ووقائع الثورات العربية نسمع طيلة الوقت استغاثات من جانحين وخارجين على القوانين توظفهم النظم الحاكمة في البلدان العربية التي شهدت ثورات متتابعة لترويع المواطنين والتصدي للثوار وخدمة "الثورة المضادة". هؤلاء يسميهم المصريون "البلطجية" وفي اليمن يقال "البلاطجة" وفي تونس "البلطجيين" وينعتهم السوريون بـ"الشبيحة". وهكذا تختلف المسميات لكن الفعل واحد.

وهذه الظاهرة تستوجب أن تقف أمامها عقول الباحثين لاسيما في علم الاجتماع والسياسة بالفحص والدرس، لتعرف جذورها، وتتبع تطوراتها، وتبين آثارها الآنية والمستقبلية. لكن ما يمكن أن نطرحه الآن هو: من هم البلطجية؟ ومن أين أتت هذه الكلمة البغيضة؟ أو هذا "الاصطلاح" الذي ينطوي على قدر هائل من الإكراه المادي والمعنوي الذي يرمي إلى إخضاع شخص أو جماعة لإرادة قوة باطشة غاشمة، وإجباره على اتخاذ قرار أو إتيان سلوك ينافي رغبته. وليست لهذا الفعل القسري القائم على البغي والطغيان والتنكيل بالآخرين، صورة واحدة أو شكل نمطي، وإنما تتعد صوره وأشكاله، وتتفاوت أحجامها، من ظرف إلى آخر، وموقف إلى غيره.

ويعود جذر كلمة "بلطجي" التي شاعت في المقالات والأدبيات السياسية والقانونية العربية على نطاق واسع إلى أصل تركي، وهو حاصل جمع مقطعين لكلمة "بلطة" وهي آلة حادة قاطعة و"جي" ومعناها "حامل"، ما يبرهن على أن الكلمة تعني "حامل البلطة". وفي أيام الإمبراطورية العثمانية كان حاملو البلط "البلطجية" يشكلون فصيلًا عسكريّاً، يناط به السير أمام قوات المشاة، لتمهيد طريقها إلى دخول القرى والبلدات والمدن، وسيطرتها على الأرض. وكان هؤلاء يقومون بقطع الأشجار والنخيل التي تعترض تقدم هذه القوات، أو عمل فتحات وهدم أجزاء من جدران الحصون والقلاع. وظل هذا الفصيل العسكري قائماً حتى أيام محمد علي باشا، الذي حكم مصر في الفترة من 1805 إلى 1848.

ووقتها لم يكن اسم أو وظيفة "بلطجي" يحمل أي شيء أو معنى منبوذ أو مستهجن، بدليل أن الوالي العثماني على مصر في الفترة من 1752 إلى 1755 كان اسمه "بلجة جي" أو "بلطجي". ولكن هذا الاسم صار مصطلحاً كريهاً بداية من ثلاثينيات القرن العشرين، إذ صار "البلطجي" مجرماً في نظر المجتمع والقانون، وتراكمت هذه الصورة السلبية والمقيتة حتى وجدت الحكومة المصرية نفسها تسن قانوناً لـ"البلطجة" وتضمه إلى قانون العقوبات، ولكنها لم تعرضه على البرلمان، ورفضت المحكمة الدستورية العليا نصه. ثم عادت الحكومة وضمنت قانوناً لـ"مكافحة الإرهاب" بنوداً تسد الفراغ التشريعي لمكافحة "البلطجة".

وقد صار لـ"البلطجية" دور ملموس في الممارسات السياسية الطبيعية، إذ شاع في السنوات الأخيرة استخدامهم في الانتخابات على نطاق واسع، وإسناد وظائف محددة لهم، من قبيل التضييق على أنصار المنافسين وتخويفهم، ومنعهم من الوصول إلى صناديق الاقتراع، أو إجبار الناس على التصويت لصالح مرشح معين، وحماية بعض المرشحين من منازلهم، وفرض هيبتهم وسطوتهم على أهل الدائرة الانتخابية. وفي ظل هذا الوضع المغلوط صارت "البلطجة" مهنة لبعض المنحرفين والجانحين والمجرمين والخارجين على الأعراف والتقاليد والقوانين، وأصبحت تخضع لظروف السوق وأحوالها، فيزيد الطلب على "البلطجية" أيام الانتخابات العامة، ويقل في غير موسمها.

كما يستعين بعض رجال الأعمال وكبار الملاك بـ"البلطجية" لتخليص حقوق مؤجلة، أو السطو على حقوق الغير. وشاع الأمر إلى درجة أن كثيراً من الناس، حتى من بين البسطاء والمستورين، يلجأون أحياناً إلى الاستعانة بهؤلاء للغرض نفسه، في ظل بطء التقاضي، وغياب سلطة القانون، وعدم الثقة في العدالة، وانشغال جهاز الأمن بحماية كرسي السلطة على حساب الأمن الاجتماعي.

وهذا السلوك المشين ليس حديثاً أو طارئاً، بل له تاريخ في العالم بأسره. فطالما سعت قوى الاستبداد إلي الالتفاف على التطور الديمقراطي من خلال حشد وتكتيل "البلطجية" وحملة الهراوات والسكاكين والغدارات لتفرقة صفوف المشاركين في الحملات الانتخابية، وفض إضرابات العمال، وقمع احتجاجات منظمات المجتمع المدني والتجمعات الحقوقية. وهنا تطل بقوة "مافيات آل كابوني" في الولايات المتحدة وبلطجية "إس. إس" في ألمانيا النازية و"الفلانج" في إسبانيا، وأصحاب القمصان السود في إيطاليا الفاشية.

ولم تقف "البلطجة" عند هذا الحد المرتبط بالأفراد والجماعات السياسية داخل الدول، بل لقد وصلت إلى النظام الدولي برمته، فأصبح العرب المحدثون يطلقون على أعمال إسرائيل وبعض أعمال الولايات المتحدة الأميركية صفة "بلطجة" حيث الإفراط في استخدام القوة، وارتكاب قدر هائل من العنف، في ظل غياب أي مسوغ قانوني لمثل هذا السلوك، ومع عدم اعتناء من قبل المعتدين أو ممارسي "البلطجة" بوجود مثل هذا المسوغ، والإخلاص فقط لتحقيق المصلحة حتى ولو على رقاب الناس ودمائهم، أو لفرض الهيبة، حتى لو ظهر المعتدي في صورة الدولة الباغية المتغطرسة المتجبرة.

ومثل هذا الوضع جعل "البلطجة" تخرج عن حدود الممارسات العنيفة والغليظة لعصابات أو أفراد، لتصبح ظاهرة عالمية واسعة، تمتد إلى جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ما يحدو بعدد من السياسيين والدبلوماسيين والمفكرين وقادة الدول ليستعملوا كلمة "بلطجة" في وصف كثير من الممارسات القمعية لبعض الدول. وقد التقط الإعلاميون العرب الخيط ففاضوا في وضع عناوين من قبيل "بلطجة أميركية في مياه الأطلسي" و"البلطجة الأميركية تطال أفغانستان" و"دولة البلطجة" و"نواب البلطجة" و"زمن البلطجة" و"فكر البلطجة"... والبقية تأتي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
إلى الكاتب
كاره لهم -

و ماذا عن البلطجة السياسية التي يمارسها العالمانيون و الليبراليون, و يحاولون فرض رأيهم و أفكارهم على الغالبية العظمى؟؟

إلى الكاتب
كاره لهم -

و ماذا عن البلطجة السياسية التي يمارسها العالمانيون و الليبراليون, و يحاولون فرض رأيهم و أفكارهم على الغالبية العظمى؟؟