الثورات العربية وسقف التوقعات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الحسين الزاوي
إن الثورات العربية التي كلّلت بالنجاح بسقوط رموزها الكبيرة، تواجه تحديات عديدة على مستوى تجسيد أهدافها التي رفع شعاراتها الشباب في ميادين الاعتصام وساحات القتال والمواجهة، فسقف التوقعات الذي يزداد ارتفاعاً نتيجة لضيق سبل العيش وانحسار أفق المشاركة السياسية خلال العصر البائد، يمكنه أن يتسبب في انتكاسات وخيبة في الآمال المعقودة على قادة الثورة ومجموع المسؤولين الساهرين على تسيير المرحلة الانتقالية . ذلك أنه من الخطأ أن يعتقد شباب الثورة أن الانتصار الذي تحقق مع سقوط النظام يمثل خاتمة المطاف بالنسبة إلى مسيرة الثورة، وعليه فإن هذا النصر الذي ألهب مشاعر الملايين داخل الوطن العربي وحتى خارجه، وأضحى مثالاً يُحتذى به من الكثير من الحركات السياسية العالمية، لا يمثل في واقع الأمر إلا فاتحة لمسلسل جديد من النضال والمواجهة لم تتضح كل معالمه حتى الآن؛ وهذا ما دفع المفكر الفرنسي ldquo;برتراند باديrdquo; إلى القول إن هذه الحراك المفاجئ ldquo;لا يشكل نهاية المطاف لسيرورة مكتملة، ولكنه يمثل بداية لشيء جديد لا نعلم حتى الآن إلى أين سوف يتجهrdquo; .
فالثورة المصرية على موعد مع استحقاقات كبرى ومحطات مفصلية سترسم من دون شك المستقبل السياسي لمصر خلال السنوات وربما العقود المقبلة، لأنه إذا لم تتكاتف جهود القوى السياسية الكبرى من أجل إنجاح المواعيد الانتخابية المقبلة، فإن البلاد ستواجه هزات عنيفة، نتيجة لعوامل كثيرة لعل من أبرزها معطيات الجغرافيا السياسية والجيواستراتيجية لمصر، التي تجعلها تواجه تحديات إقليمية ودولية في غاية الخطورة؛ ولعل الاعتداء الصهيوني على الجنود المصريين في سيناء يشكل تجسيداً بسيطاً يفصح عن مدى جسامة هذه التحديات . ونعتقد هنا أن النخب السياسية والفكرية المصرية تعي جيداً خطورة وتبعات طرحٍ متعجّل حول طبيعة مشروع المجتمع، لأنه من غير الممكن حسم مثل هذا المشروع في هذه الفترة الدقيقة والمضطربة من تاريخ مصر، كما أنه ليس من الحكمة أن تتم إعادة النظر في الأسس والقواعد التي بُنيت عليها الدولة المصرية منذ السنوات الأولى للاستقلال، وبالتالي فلم تكن مصادفة أن يصرِّح قادة المجلس العسكري أن هذه المسألة تعدّ محسومة . وعليه فإن التعددية السياسية التي يطمح المصريون إلى إرساء قواعدها، لا تسعى إلى فتح سجال عقيم عن تفاصيل العناوين الأساسية للهوية الوطنية التي يتفق الجميع على خطوطها الكبرى، بقدر ما تصبو إلى خلق تنافس صحي ومتوازن ما بين المشاريع المختلفة التي تسعى إلى إعادة بناء مصر واسترجاع هيبتها ومكانتها الإقليمية والدولية .
فمصر بثقلها السياسي والحضاري تشكل قاطرة التحول الذي يحلم به المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، وبالتالي فالمسؤوليات التي تقع على عاتق النخب المصرية، تفرض عليهم أن يرتقوا إلى مستوى هذه المسؤوليات، لأن الرهان هو أكبر بكثير من مجرد الحصول على مقاعد في البرلمان أو الفوز بمنصب الرئاسة، فالمسؤولية في مصر ما بعد الثورة هي تكليف ومتابعة ومحاسبة وليست تشريفاً أو فرصة للحصول على الامتيازات، وليست بالتالي محطة للترويج لقناعات أيديولوجية تفرِّق أكثر مما تجمع .
أما بالنسبة إلى الثورة التونسية، فيمكننا أن نلاحظ أن شباب الثورة لم يلحظ بعد تحولاً ملموساً في المجالات الكبرى التي مثلت بؤرة اهتمام الثوار التونسيين، ومع ذلك فإنهم ليسوا على عجلة من أمرهم، لأنهم مقتنعون أن المجلس الذي سيتم انتخابه سيشكل لا محالة البوتقة التي ستتجسد فيها طموحات أغلب القوى السياسية التونسية . ولا شك أن الصعوبات الكأداء سوف تبرز حينما تحاول الطبقة السياسية تجسيد أهداف الثورة على أرض الواقع، لأن إحداث تغيير حاسم في المواقع وفي هرم السلطة لن يكون مسألة هينة، وسيأخذ التحول فترة زمنية طويلة نسبياً حتى يستطيع المواطن التونسي أن يلمس الآثار الإيجابية للثورة التي أنجزها . ورغم كل ذلك علينا أن نعترف في هذه العجالة أن النقطة الأساسية التي تحسب لمصلحة الثورة التونسية، تكمن في ضعف حدة الاصطفاف الأيديولوجي بالمقارنة مع الحالة المصرية الشديدة الالتهاب .
وفي ما يتعلق بالثورة الليبية التي عرفت مؤخراً أكثر محطاتها حسماً وإثارة، فإنه وبالرغم من أنها خلقت حالة ثورية جديدة في مشهد الحراك العربي، من منطلق أنها عمِلت،لأسباب موضوعية معروفة، على اقتلاع النظام السابق من جذوره، فإن التحديات التي ستواجهها ستكون أكثر صعوبة . ذلك أن السلطة التي تصل إلى الحكم على أسنة الرماح عليها من جهة، أن تبذل جهداً مضاعفاً من أجل تجنُّب غواية التمسك بالسلطة وإقصاء باقي التشكيلات السياسية المعبّرة عن التوجهات المختلفة للمجتمع الليبي، وعليها من جهة أخرى أن تبذل جهوداً جبارة من أجل إجراء مصالحة وطنية حقيقية تُفضي إلى القضاء على كل خلفيات وأسباب الحقد التي أوجدتها شهور من القتال العنيف والدامي بين الثوار وكتائب القذافي . أما الشق الاجتماعي والاقتصادي للثورة الليبية فيشكل عنصر القوة الرئيس بالنسبة إلى مشاريعها المستقبلية، لأن الإمكانات المالية الكبرى التي تمتلكها ليبيا تجعلها قادرة على مواجهة صعوبات المرحلة المقبلة بكل ثقة وأمان، خاصة بعد أن تخلصت من تلك المرحلة التي كانت تُصرف فيها أموال الشعب الليبي من أجل صنع أمجاد وهمية يصح أن نطلق عليها وصف الشاعر العربي:
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالقط يحكي انتفاخاً صولة الأسد