الثورات العربية والتغيير الثقافي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
نبيل علي صالح
هل باستطاعة الثورات والانتفاضات العربية إقامة دول مدنية حرة يشارك الجميع فيها؟ وهل يمكن للأقليات الدينية والقومية التي لديها نوع من "فوبيا" الأكثرية الدينية، أن تشارك بفاعلية في بناء مجتمعات ما بعد نجاح الثورات؟!
في الواقع ربما يكون الرهان كبيراً حالياً على هذه الانتفاضات والثورات العربية في مسعاها لإقامة نظام الحرية والعدالة في مجتمعاتنا العربية، حيث إنه لا يكفي فقط القضاء على نظام مستبد متسلط فقط، بل لا بد أيضاً -قبل ذلك- من القضاء على شروط وأسس ومكونات الاستبداد القائم منذ زمن، والتخلص من كل المرتكزات والأسس التاريخية والثقافية التي تنتج لنا باستمرار بين وقت وآخر مثل هذه النظم السلطوية القمعية المنغلقة سواء تحت عناوين دينية أم علمانية، هنا الرهان، وهذا هو التحدي الذي يجب على تلك الثورات العربية أن تتحرك عليه، إنه تخليص الناس والمجتمعات العربية من مجمل هذه الشروط والمناخات المعرفية التي تكمن وراء تخلف تلك المجتمعات، ووراء اضطهاد أفرادها وفقرهم واستضعافهم الدائم، ومعاملتهم كرعايا لا كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات مثل باقي الناس.
ونحن نعلم أن هذه الشروط مركزة في داخل البنية الثقافية العربية والإسلامية منذ قرون وقرون، حتى الآن. وهي تعيد إنتاج نفسها مع التحولات والتغيرات الكبرى طالما أن تسييس الدين وتديين السياسية ما زال هو الحالة العامة التي يجري العمل عليها حتى تاريخه من قبل هؤلاء المسيطرين على الحالة الدينية في مجتمعاتنا.
طبعاً نحن هنا لا نريد أن نهدم أسس الدين بهدف بناء الحداثة، بل نؤكد على أن الدين حالة حضارية في الفكر والإحساس والممارسة، وله دور أخلاقي من زاوية الهداية والإرشاد النفسي القيمي، ولكنه ليس تجربة عامة بالمعنى الاجتماعي-السياسي، فالشريعة أمر مقدس، لكن السلطة أمر بشري نسبي، والدين اختيار ذاتي حر، وتجربة حرية فردية خاصة في علاقة الإنسان بخالقه على الصورة والشكل والمظهر والسلوكية والطريقة التي يفكر بها ويؤمن بها ويعتقدها ويمارسها، ولا تلزم أحداً سواه. كما ندرك أن مجتمعاتنا العربية لا تزال للأسف مؤسسة على هذا التفكير الديني في ارتباطه الوثيق بالبنى القبلية وبمجمل قضايا الصراع والتدافع التاريخي العنفي الدموي على السلطة والحكم.
من هنا رهاننا على أن المعارضات السياسية القائمة حالياً على شكل انتفاضات وثورات عربية ضد نظم حكم عربية مستبدة وفاسدة تريد إزاحتها وإسقاطها بعد فشلها في بناء دول العدل والقانون والمؤسسات كما تزعم، لا بد أن تبني وتقيم لنفسها أيضاً نوعاً من المعارضات المعرفية والثقافية لمجمل التكوينات والبنى المعرفية التي تنتج وتعيد اجترار الحالة الثقافية للاستبداد والتخلف وحالة التشرذم والتفكك المجتمعي من جديد. أي أنه يجب على رموز ومتنوري تلك المعارضات ألا يكتفوا فقط بإزالة دولة الاستبداد القائمة حالياً في شكل هذا النظام السياسي العربي أو ذاك، بل عليهم واجب الإطاحة أيضاً بمجمل النظام القائم تاريخياً وثقافياً الكامن وراء نشوء أفكار التسلط والاستبداد وقوانين التعصب والغلبة التاريخية لتكون المحصلة تغييراً جذرياً حقيقياً لا مجرد تغيير شكلي يكتفي بتغيير نظام مستبد وفاسد قائم بآخر أكثر أو أقل استبداداً وفساداً منه.
وفي ظني أن الخطر والخوف الحقيقي الذي يخيف كثيراً من أبناء مجتمعاتنا العربية من الأقليات الدينية وغير الدينية، ويمنعها من الانخراط الميداني مع تلك الثورات حتى الآن، ليس حبها بأنظمتها الحاكمة الظالمة، ولكنه في هذه العودة السياسية والاجتماعية للدين، والتأثير الواضح للخطابات والرموز الدينية في مجمل هذه الانتفاضات والثورات العربية الحالية من تونس إلى اليمن مروراً بسوريا ومصر، وما يترتب عليه من تصاعد اللغة والسلوكيات الدينية في خضم هذه الثورات (ومحاولة استغلالها واستثمارها وركوب موجتها من قبل الأحزاب الأصولية) يبعث في نفوس الناس -خاصة من تلك الأقليات- حالة من التوجس والريبة والخوف التاريخي من إعادة هيمنة النص وحاكمية الدين تحت عناوين مدنية وديمقراطية بداعي حكم الأكثرية (فوبيا الأكثرية الإسلامية القائمة على نصوص واستحضار فتاوى دينية جاهزة. وهذه الأكثرية معروفة تاريخياً بسحقها ونفيها للأقليات الدينية في غير موقع تاريخي وجغرافي) مما يعني أننا سنعود من جديد إلى عهود التصفيات والسجون والسلاسل والأصفاد، ولكن هذه المرة بشعارات مقدسة دينياً بعدما كانت شعارات مقدسة علمانياً.
من هنا وحتى نضمن مشاركة فعالة للجميع من موقع المواطنية المدنية الصالحة كأفراد لهم حقوق وواجبات متساوية أمام القانون، لا بد أن تقوم الدولة الموعودة التي ستنشأ على أنقاض دولة الاستبداد، بعد نجاح تلك الثورات، على الحالة المدنية التعددية، بما يعني أن يكون انتماء وولاء الفرد للوطن والأرض وليس للدين أو الطائفة أو المذهب أو الطائفة أو العشيرة أو العرق كما هو موجود وقائم حالياً في دولنا وبلداننا كحالتنا في سوريا التي هي مركب واسع الطيف تعتلج السياسة بالثقافة ويختلط فيه الدين بالمجتمع. وفيه من الاثنيات والأقليات الشيء الكثير.
وهذا الكلام لا يعني أنه ليس من حق الدين أو رجل الدين أن يشارك في صنع السياسة، بلى ولكن ليس من موقعه أو صفته كرجل دين (يطغى عليه المطلق على النسبي، والمقدس العُلوي على المدنّس الأرضي) بل من موقعه كفرد مواطن له حقوق وعليه واجبات مدنية مضمونة له وللآخرين في الدستور.
وقد يقول البعض إن تلك الثورات تقوم بإجراءات فكرية على الأرض لتطمين الأقليات الدينية والقومية والعرقية، من جملتها قيامها برفع لافتات تخفف فيها من وطأة الديني عليها، وتعلن صراحة أنها ستقيم الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، وأنها رفعت عناوين ترحيبية بأن للأقليات دورا أساسيا في بناء وقيادة تلك المجتمعات لاحقا من موقعها كأفراد مواطنين.
طبعا رفع الشعارات التطمينية المخففة من غلواء المتعصبين، هو أمر مهم، والتصريح العلني أمام وسائل الإعلام المتنوعة على النحو الإيجابي الذي نسمعه، جيد ولكنه غير كاف، لأننا نعرف أن الحالة العامة المهيمنة على تلك الانتفاضات هي الحالة الدينية الإسلامية التي سبق لها أن تعرضت لحالة من العنف، كما تعرضت تيارات وأحزاب علمانية أخرى، وهو عنف مرفوض ومدان سواء من جهة السلطة أم من جهة المعارضة. أقول إن تلك الحالة الدينية يعتريها نوع من الهوس التاريخي الجنوني لاستلام السلطة، ومباشرة الحكم الديني رغم ادعاء رموزها العلني الإيمان بالفكرة الديمقراطية ولو على مضض وخجل، ومحاولتهم تغيير بعض أفكارهم وأساليب عملهم القديمة التي لم تعد تتناسب مع الأوضاع والتحولات السياسية الدولية. ولهذا ما لم تقم تلك الثورات بإزالة العراقيل والعقبات التي تمنع نشوء مجتمعات حرة وعادلة ومدنية الطابع والمضمون والهدف، لن يكون القضاء على النظم الاستبدادية القائمة حالياً سوى مرحلة زمنية لبناء دول مستبدة جديدة الشكل، وقديمة المضامين، كما ذكرنا.
إن العمل يجب أن يجري حالياً على تقديم نماذج عملية حية على الطرح السابق من خلال إقامة دول حرة مدنية حقيقية، ولكن لا بد قبل ذلك من تغيير ثقافة العقول والنفوس، من خلال تغيير النصوص والكلمات التي قد تؤثر ويكون لها وقع أشد خطورة وتأثيراً من وقع الرصاص المتفجر في الرؤوس والقلوب!! هذا هو التحدي أمام الثورات، فهل ستستجيب له؟!