الصفقة تنتظر... عودة أوباما ورحيل نجاد؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
جورج سمعان
التطورات الأخيرة في الأزمة السورية لن تبدل الكثير في واقع الحرب الدائرة. ولن تكسر ميزان القوى الميداني الذي يمدها بالاستمرار وبمزيد من الفوضى التي بدأت تفيض على الإقليم وتدفع الأوضاع في عدد من بلدانه نحو ذروة التوتر... وترفع وتيرة التـــكهنات والتمنيات. لكن هذه قد لا تعدو كونها أوهاماً. فلا النظام في دمشــق على شفــا الهــاوية، وإن كان من الثابت أن لا قيامة له في النهاية. ولا تركيا ذاهبة إلى الحرب، وإن أجـــاز البرلمان لحكومة رجب طيب أردوغان تحريك الجيش في عمليات خارج الحدود. ولا إيران شارفت على السقوط أو على الأقل مقايضة وقف التخصيب النووي برفع العقوبات الاقتصادية مهما ترنح الريال. ولا لبنان الرسمي طوى صفحة "النأي بالنفس"، وإن زجت قوى لبنانية نفسها بالقتال إلى هذا الجانب أو ذاك. ولا الأردن المنغمس في محاولة لملمة وضعه الخطير يبدي استعداداً للتصعيد مع جاره، وإن تكهن بعضهم بأن ذلك قد يكسب الحكم بعض القوة في الداخل ومزيداً من الدعم الخارجي في مواجــهة خصومه الإسلاميين.
كان واضحاً منذ اندلاع الثورة في سورية أن الإقليم لن يكون بمنأى عن الفوضى أو التوتر. وأثبتت الأزمات الداخلية الناشبة في البلدان المعنية أن هذه الثورة صارت جزءاً من الحراك السياسي الداخلي في بلدان الجوار. الأمر الذي يعمق عجز هذه البلدان عن توفير عناصر لتسوية إقليمية. أو في أحسن الأحوال يحفزها على توفير بيئة ملائمة تعبد الطريق أمام المبعوث الدولي - العربي الخاص الأخضر الإبراهيمي لإنضاج صفقة، لأن البديل سيكون تعميم الفوضى... لعلها "الفوضى الخلاقة" التي بشروا بها وبولادة النظام الإقليمي الجديد من رحمها!
في عام 1999 كان كافياً أن تحشد تركيا قواتها على الحدود مع سورية لتقدم لها دمشق رأس عبدالله أوجلان. يومها اجتمعت القيادتان السياسية والعسكرية برئاسة حافظ الأسد ودرستا كل الخيارات، وبينها الرد على تهديدات أنقرة ورفع التحدي في وجهها. تدخل الرئيس حسني مبارك. قام بزيارة خاطفة للرياض ثم أنقرة التي حملته شريطاً يظهر إقامة "الرجل المطلوب" في دمشق مصحوباً بإنذار جدي. ولم يكن أمام الرئيس الراحل سوى تهدئة أركان حربه وتكليف جهازه الأمني تدبير خروج زعيم "حزب العمال الكردستاني" من البلاد بما يتيح للأمن التركي تعقبه وأسره. وهذا ما كان.
هكذا، لوحت تركيا قبل عقد ونيف باستخدام القوة. لم تكن قادرة على تحمل تبعات الدعم السوري لعمليات "حزب العمال" وما يستتبعه من هز الاستقرار الداخلي واهترائه. وهي اليوم تعيد الكَرّة، مع اختلاف في ظروف المرحلتين. لم يكف الرئيس بشار الأسد عن محاولة تصدير أزمته إلى خارج الحدود. يعتقد ربما أن جرّ تركيا إلى مواجهة ميداينة يفتح الباب لتدخل آخرين في الحرب الدائرة. رهانه على تدخل حلفائه الإيرانيين أو الروس والصينيين للدفاع عنه قد لا يكون في محله. فمن المستبعد أن يزج هؤلاء بجنودهم دفاعاً عن نظامه. كما أن حكومة رجب طيب أردوغان لا ترغب في الانزلاق إلى المستنقع السوري. فتكرار الأحداث الحدودية بين البلدين وما خلّفه ويخلفه تزايد أعداد اللاجئين والجماعات المعارضة المسلحة في شوارع القرى والمدن التركية المحاذية للحدود، من امتعاض في صفوف المواطنين الأتراك وبعض القوى السياسية الداخلية، كلها عناصر ترفع وتيرة الضغط على حكومة أنقرة.
لــذلك، لم يكـــن أمام أردوغـــان سوى رفع التحدي، والتلويح باستعداده للــــحرب. لا يقلقه "تحـــرش" النظـــام السوري أو محاولة استدراجه فحسب، يقلــقه أيضاً تنامي اعتراض أحزاب المعارضة وبعض المكونات التركية على ما تقدمـــه حكومته إلى "المجلس الوطني الســـوري" و "الجيش الحر" وبعض المجموعات المسلحة. لا يريد أن يخسر سريعاً هذا الوهج الداخلي والخارجي الذي حصده في مؤتمر حزبه أخيراً، وهو يستعد لانتخابات محلية ثم برلمانية فرئاسية العام المقــبل. ويقلقه أكثر توافد فرق المجــاهـــدين والمتـــشددين إلى سورية وما يمـــكن أن يشكله ذلــك من أخطار مســتقبلية علــى تــركيا نفــسها.
أنقرة ليست مستعدة لرؤية مجموعات جهادية تقيم على بعد أمتار من حدودها، وتعمل على تكرار "التجربة العراقية" منتصف التسعينات. والقذائف السورية التي سقطت على قرية تركية لم تحرك وحدها مجلس الأمن. أثارت مخاوفه أيضاً التفجيرات الأخيرة في حلب وما يشي به مستقبل الوضع في سورية. وهي مخاوف تنتاب أنقرة التي حرصت منذ البداية على الاستئثار بورقة المعارضة السورية السياسية والعسكرية بمختلف قواها. وهي لا ترغب في ضياع ما بنته طوال سنة وسبعة أشهر. لا يعني ذلك أن أنقرة راغبة في الحرب وتنتظر الذرائع لتدخل ميداني. حاذرت منذ البداية الانزلاق إلى المستنقع السوري... لكن خطأ في حسابات نظام دمشق قد يدفعها مرغمة إلى ما لا تشتهيه. مع العلم أن للتدخل حسابات أطلسية... وروسية وإيرانية، وليس حسابات داخلية فقط!
هذه الحرارة التي أشعلتها الأزمة السورية في الساحة التركية، لم تكن بعيدة من المساهمة في رفع مستوى التوتر الداخلي في إيران. فطهران التي تعيش على لظى نار العقوبات الاقتصادية الدولية القاسية فاقم متاعبها وأثار نقمة الشارع ما أعلنه بعض قادتها عن مساعدات لوجيستية ومالية لدمشق. صحيح أن الملف النووي هو العنوان الكبير للصراع بين طهران وواشنطن وحليفاتها، لكن الصحيح أيضاً أن الانغماس الإيراني في دعم نظام الرئيس الأسد حول الأزمة السورية جبهة مفتوحة في هذا الصراع. حتى باتت خسارة الجمهورية الإسلامية سوريةَ لا تعني فقط سقوط موقع كبير سيودي بكل ما بنت من رصيد واستثمرت طوال عقود، بل قد تحفز الشارع الإيراني وتشجعه على استلهام "الربيع العربي".
الدعم الإيراني للنظام في دمشق لن يتوقف بالطبع. ومهما بلغت حسابات الدعم فهي لن ترقى إلى الأرقام التي يتكبدها الاقتصاد الإيراني، خصوصاً بعدما بدأ سريان الحصار على القطاع النفطي. يزيد الدعم في إثارة غضب الناس الذين يكتوون بانهيار الريال وارتفاع معدلات البطالة والتضخم وتفشي الفقر. ويصب مزيداً من الزيت على الصراع المفتوح بين معسكَري المحافظين، كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية في حزيران (يونيو) المقبل.
من الثابت حتى الآن أن ليست هناك قوة أو طرف في إيران مستعد للمساومة على الملف النووي، مهما حاولت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون مقايضة وقف التخصيب بوقف العقوبات. مسيرة هذا الملف منذ نحو عشر سنوات تؤكد أن المشروع النووي يحظى بإجماع قومي. وإذا كان مستبعداً أن ينهار النظام بفعل العقوبات القاسية التي لا تتوقف، فإن تزايد الانقسام في صفوف النخبة الحاكمة على أساليب معالجة وضع الانهيار الاقتصادي، واحتمال "انتفاضة" الفقراء الذين كانوا عماد النظام في مواجهة "الثورة الخضراء" عام 2009، أو احتمال وقوع مفاجأة في الأزمة السورية كانهيار النظام وتقهقره، قد تدفع طهران إلى إعادة النظر في موقفها وحساباتها وشروطها من الحوار الدائر مع القوى الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة.
مــثل هذا التطــور، إذا توافـــرت شـــروطه قد يثمر صفـــة ما لن تقدم عليها اليوم قيادة المرشد علي خامنئي، فيما يقترب عهد خصمها اللدود محمود أحمدي نجاد من نهايته. كما أن الإدارة الأميركية ليست مستعدة لأي حوار مع طهران وهي تقترب من استحقـــاق المعركة الرئاسية. كما أنها تفضل تأخير مثل هذا الحوار حتى وصول الرئيس الإيراني الجديد، وبعد أن تكون العقوبات أثمـــرت مزيداً من الإرباك والإنهاك، مثلما أثمرت حتى الآن... في استبعاد خيار الحرب الذي لا يزال بنيامين نتانياهو "يلوّح" به في معاركه الداخلية!
حتى منتصف العام المقبل من يضمن استقرار الحدود بين سورية وتركيا؟ ومن يضمن ضبط الشارع في إيران؟ وقبل هذا وذاك من يتحكم بسير التطورات في سورية ويضمن بقاء ميزان القوى على حاله؟ وماذا لو اشتعلت النار في إحدى جبهات الصراع المفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران في الشرق الأوسط الكبير؟ وأخيراً ماذا عن حسابات روسيا؟