الفاتيكان والعلاقات الإسلامية المسيحية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
محمد السماك
زار البابا بنديكتوس السادس عشر لبنان، حيث أعلن وثيقة بابوية جديدة تتعلق بمسيحيي الشرق الأوسط. وكان البابا قد ترأس قبل ذلك في عام 2010 مؤتمراً -سينودس- عقد في الفاتيكان برئاسته لبحث مستقبل المسيحيين في ضوء المتغيرات التي عصفت ولا تزال تعصف بدول المنطقة. وتعرف الوثيقة التي أعلنها من بيروت بـ"الإرشاد الرسولي"، وهي تقدم توصيات مستمدة من الأبحاث والمناقشات التي جرت خلال السينودس. فما هو واقع العلاقات الإسلامية مع الفاتيكان؟ وكيف تتغير؟ وفي أي اتجاه؟ وما هي العوامل المؤثرة في حركة التغيير التي تواجهها؟
مرّت علاقات الفاتيكان مع العالم الإسلامي بمراحل سيئة وأخرى بالغة السوء، وقد انطلقت المرحلة الأسوأ من دير كليمنت في جنوبي فرنسا، عندما أعلن البابا كليرمونت في عام 1095 الحرب على الإسلام بالدعوة إلى ما بات يعرف باسم "الحروب الصليبية" (حروب الفرنجة كما سماها العرب المسلمون). وقد استمرت تلك الحروب حتى عام 1291م، وذهب ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا، ليس من المسلمين فقط، وإنما من مسيحيي ويهود الشرق أيضاً. ولا يزال مجرد ذكر تلك الحروب الدامية التي مر على انتهائها 721 عاماً حتى الآن، يثير الاشمئزاز والغضب.
ومرّت العلاقات الإسلامية مع الفاتيكان أيضاً بمراحل جيدة وبالغة الجودة:
المرحلة الجيدة كانت في عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين الذي كان يلقب بالبابا الطيب. فقد دعا إلى مجلس للأساقفة حضره 2450 أسقفاً من مختلف أنحاء العالم، واستمر المجلس الذي يعتبر أحد أهم المجالس العشرين التي سبقته، من 11 أكتوبر 1962 إلى 8 ديسمبر 1965. وتعود أهميته إلى القرارات الدينية التي اتخذها، ومنها ما يتعلق بالإسلام والمسلمين. فقد أعلن المجلس للمرة الأولى احترامه للعقيدة الإسلامية لأنها تقول بإله واحد وتحترم المسيح وتؤمن به نبياً. كما تؤمن بعذرية السيدة مريم، واليوم الآخر، والحساب، والعقاب.
وقد عمل على تكريس هذا الموقف الأسقفي الجديد البابا بولس السادس الذي خلف البابا يوحنا الثالث والعشرين الذي كان توفي في 3 يونيو 1963 أي قبل انتهاء أعمال المجلس.
وقبل ذلك بعقود عدة، وتحديداً في عام 1904، اتخذ البابا بيوس العاشر موقفاً مبدئياً من المطامع الصهيونية في فلسطين شكل رصيداً كبيراً للفاتيكان في العالم الإسلامي.
أما الأكثر جودة، فكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني الذي اتخذ مبادرتين انفتاحيتين على الإسلام وعلى العالم الإسلامي. تمثلت المبادرة الأولى في دعوته في عام 1986 إلى مؤتمر عام للحوار بين الأديان عُقد في أسيزي بإيطاليا. وكانت المرة الأولى التي يلبي فيها مسلمون على مستوى عالٍ دعوة البابا إلى لقاء حواري موسع.
أما مبادرته الثانية، فتمثلت في دعوته إلى عقد سينودس خاص حول لبنان (من 26 نوفمبر إلى 4 ديسمبر 1995). وللمرة الأولى في تاريخ المجالس الأسقفية يدعى مسلمون سنة وشيعة ودروز (محمد السماك، سعود المولى، وعباس الحلبي) ليس كمراقبين فقط، بل كمشاركين. ثم إن وثيقة "الإرشاد الرسولي" التي صدرت عن هذا السينودس وأعلنها البابا نفسه من لبنان في العاشر من مايو 1997، تضمنت فقرات تؤكد الحوار الإسلامي- المسيحي على قاعدة احترام الاختلافات العقدية والتشديد على ما يجمع من قيم مشتركة بما يخدم العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين بمحبة وسلام.
ولم تكن الإطلالة الأولى للبابا بنديكتوس السادس عشر على المسلمين إطلالة فواحة. فقد جرى تفسير كلام له ورد في إطار محاضرة ألقاها في جامعة ألمانية على أنه يطعن بعقلانية الإسلام وبدعوته السلمية من خلال اقتباس رأي منسوب إلى الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني. وعلى رغم أن البابا أوضح أن التفسير كان خاطئاً وأنه لا يتبنى ما ورد في الاقتباس واصفاً رأي مانويل بأنه "موقف شخصي عبّر عنه بفظاظة غير مقبولة". ورغم أنه أكد أنه يكنّ للإسلام كل احترام وتقدير، فإن علاقات الأزهر الشريف مع الفاتيكان على خلفية هذا الأمر، لاتزال سلبية أو شديدة التحفظ حتى الآن. فالأزهر لم يعتبر التوضيح كافياً لأنه رآه دون مستوى الاعتذار.
ولعل مما زاد الطين بلة، التصريحات التي أطلقها البابا بعد ذلك على خلفية الاعتداءات التي تعرض لها المسيحيون في العراق، وكذلك في مصر، ودعا فيها إلى العمل على حمايتهم. وقد فسرت دعوته هذه على أنها دعوة إلى التدخل الأجنبي، فيما أعرب هو نفسه عن أمله "في أن تستمر علاقات الثقة التي نمت بين المسيحيين والمسلمين منذ سنوات طويلة، بروح الحوار الصادق والاحترام المتبادل على أساس المعرفة المتبادلة والحقيقة التي تقرّ بفرح بالقيم الدينية المشتركة بيننا والتي تحترم بصدق الاختلافات". وكذلك أعرب الناطقون باسمه أن البابا كان ولا يزال يدعو إلى حماية وطنية تنبثق من صميم المجتمع الذي يشكل المسيحيون المشرقيون جزءاً منه، وأنه لم يكن يعني دعوة لتدخل خارجي.
وأكدت هذا المضمون الفاتيكاني للدعوة إلى حماية المسيحيين، المبادرة التي اتخذها البابا نفسه بعقد سينودس خاص حول مسيحيي الشرق الأوسط بين 10 و 24 أكتوبر 2010. وفي ضوء السابقة الانفتاحية التي سنّها من قبله البابا يوحنا بولس الثاني، دعا البابا بنديكتوس السادس عشر شخصيتين إسلاميتين (سنية من لبنان محمد السماك، وشيعية من إيران محقق مصطفى داماد، إلى جانب شخصية يهودية من إسرائيل، ديفيد روزن) للتحدث إلى السينودس عن شؤون وشجون أوضاع المسيحيين في المنطقة. وتتويجاً لهذه المبادرة أعلن البابا النتائج والتوصيات في وثيقة الإرشاد الرسولي. وهي وثيقة تجدد أسس العلاقات الإسلامية المسيحية في المنطقة في ضوء المتغيرات التي عصفت وتعصف بها. ولقد اختار لبنان تحديداً لإعلان الوثيقة لما تجسده صيغته الوطنية من تعايش بين المسلمين والمسيحيين. وتتكامل عملية التجديد هذه مع ما قام به البابا الراحل يوحنا بولس الثاني ومع القاعدة التي أرساها مجلس الأساقفة في عام 1965 في عهدي البابا يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس. وتنص هذه القاعدة على ما يلي:
"تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد، الحي القيوم، الرحمن القدير، الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، وإن خفيت مقاصده، كما سلّم لله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالانتساب إليه. وأنهم، على كونهم لا يعترفون بيسوع إلهاً، إلا أنهم يكرمونه نبياً، ويكرمون أمه العذراء مريم، مبتهلين إليها أحياناً بإيمان. ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي الله فيه جميع الناس بعدما يبعثهم أحياء. من أجل هذا يقدرون الحياة الأبدية، ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم خصوصاً".
ثم إن هناك القاعدة التأسيسية الإسلامية السابقة لهذه الدعوة المسيحية التي تصف النصارى (أي المسيحيين) بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا، وتدعو إلى الحوار معهم بالتي هي أحسن من أجل التوصل إلى كلمة سواء بأن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً وألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. وهي دعوة مارسها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام مع نصارى نجران، وشق بذلك، وهو الأسوة الحسنة، معالم الطريق أمام المسلمين للحوار الذي يحترم الاختلافات حتى الدينية منها.
ومن هنا فإن زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر الذي يعني اسمه "المبارك"، وفي ضوء ما تضمنه الإرشاد الرسولي من توجيهات ودعوات للحوار والعيش المشترك، تشكل مدخلاً لمرحلة جديدة من العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة العربية، وفي العالم كله.