جريدة الجرائد

«فيليكس» ينصحنا يا عرب

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مشاري الذايدي


إذا أتت النصيحة من الإنسان الناجح تكون لها مصداقية أكبر، خصوصا وهو للتو قد انتهى من قصة نجاحه الكبرى.

قبل أيام نشرت تصريحات لافتة للمغامر النمساوي فيليكس بومغارتنر المظلي الأشهر في العالم، بعد قفزته من حافة السماء، أكد فيها أنه من الضروري إقامة "ديكتاتورية معتدلة" لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.

صحيح أن الرجل ليس بسياسي، وهو قد قال ذلك، لكن بما أن الجميع في العالم، خصوصا العالم العربي، صاروا في غاية الانغماس في السياسة، فلا بأس من الإصغاء إلى هذا الشخص المحلق في أفق السماء، فلربما كان لديه بصر الصقر وبصيرة الفكر.

في مقابلة مع الصحيفة النمساوية "كلاين تسايتونغ"، حسبما نقلت "ميدل إيست أون لاين" على موقعها، أيد بومغارتنر (43 عاما) الذي أعلن رسميا أنه اعتزل "المغامرات القصوى" في 3 أكتوبر (تشرين الأول)، إحلال "ديكتاتورية معتدلة بقيادة شخصيات أصحاب خبرة من أوساط الاقتصاد الخاص". وأوضح أنه مثل الممثل الأميركي من أصل نمساوي أرنولد شوارزنيغر كحاكم لولاية كاليفورنيا الأميركية أظهر أنه "من غير الممكن تغيير أي شيء في ظل الديمقراطية". وشدد على أنه لا ينوي "الانخراط في السياسة"، مفضلا التقاعد على ذلك.

منذ اندلاع الفوضى بالربيع العربي، تحت عنوان الربيع، والحديث مثار حول واقعية الأحلام والآمال المناطة بهذه الفوضى. تقريبا "جميع" الكتاب والنشطاء العرب هللوا وطبلوا لهذه الفوضى، وعلقوا عليها الآمال، ونقدوا، وأحيانا بعضهم "شتم" كل من شكك في حقيقة هذه الأحلام، أو حاول إثارة الشك النقدي تجاه قدرة المجتمعات العربية الحالية على تحقيق العبور نحو الديمقراطية "الحقة" بمجرد إسقاط حاكم ما عبر التمرد الشارعي.

هذه أمور موثقة وموجودة على أرشيف الإنترنت، ولذلك أعجب من تعويل البعض على خداع الذاكرة، وسرعة المناورة، بل وادعاء الحكمة بأثر رجعي، وأقبح من ذلك تجاهل وشطب كل من اتخذ موقفا مختلفا عن موقف التهليل والتطبيل الساذج.

من هؤلاء شخص سعودي كتب قبل أيام في صحيفة محلية تصدر من العاصمة الرياض عن أنه "اكتشف" أن الديمقراطية قد لا تصلح للعالم العربي الآن، وأنه كان مقتنعا بذلك، هو وغيره من الكتاب العرب، لكنهم تأخروا في إظهار هذا الرأي مراعاة للجمهور، وهو لم يصدق بها، بل هو كان من المطبلين والمهللين لكل هذه الفوضى، والمبشرين بفجر جديد للحرية والديمقراطية.. وغيره، وهم قلة جدا، خصوصا في هذه الجريدة، كان ناقدا أو متشككا في جدوى هذه الحفلة.

بكل حال، ليس هذا معقد حديثنا هنا، بل هو حول العودة مجددا لفكرة أيهما أولى: الديمقراطية أم التنمية؟

هو سؤال قديم جديد في العالم كله، لكنه ملح على العالم العربي هذه الأيام بعد انفتاح الأمور على المجهول في مصر، وتونس التي أخاف فيها الجميع الجميع.

على ذكر مصر، أتذكر أنني في أول ديسمبر (كانون الأول) 2010، أي قبيل الربيع العربي بقليل، حضرت ندوة حافلة استضافها مركز الأهرام للدراسات بالقاهرة، عن التجربة الكورية، بحضور مميز لمتحدثين متنوعين من كوريا الجنوبية، من شتى الاختصاصات: إعلام، صناعة، طاقة نووية، تعليم، سياسة، تكنولوجيا.. وسفراء. الغرض كان التواصل بين العالم العربي والنمر الآسيوي المهيب: كوريا الجنوبية.. وترويج النموذج الكوري في العالم العربي وشرح التجربة التي أذهلت العالم ونقلت هذا البلد، في عقود وجيزة من عمر الزمن، إلى موضع ثقل صناعي واقتصادي في العالم.

من أكثر التعليقات إثارة حديث الأستاذ جون غمين سو، أو الدكتور "أمير" كما يحب أن يعرف بنفسه للعرب والمصريين. هو مستعرب كوري، يتحدث العربية بطلاقة، ويلقي "الإفيهات" المصرية، كما أنه رئيس قسم دراسات عن الشرق الأوسط في العاصمة الكورية.

قال الدكتور أمير: "يحيرني العرب، كلما سألت أحدا منهم: لماذا لا تحققون نهضة تنموية واقتصادية ناجحة رغم توافر الأدوات؟ يجيب كثير منهم، وبشكل مستمر أسمعه منذ عرفت العرب: الأعداء لا يريدون لنا التقدم، هناك أعداء كثيرون".

كان حديثه صريحا ومباشرا، وفيه لمحة عتاب صادق وناصح.

آخر اليوم كنت أود من الحضور والباحثين أن يتم الجواب عن سؤال المستعرب الكوري الوجيه هذا. سؤاله أثار لديّ خواطر قريبة، منها أن عمر الحرب "الخطرة" بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، هو من عمر الحرب بين العرب وإسرائيل، تقريبا، فنكبة فلسطين كانت 1948، وقد قسمت الجزيرة الكورية عقب الحرب العالمية الثانية 1945، ثم قامت حكومتان في الشمال والجنوب، الشمال كان مع العالم الشيوعي والجنوب كان مع العالم الرأسمالي، واندلعت الحرب الكورية عام 1950، وما زالت فصولها تتوالى بشكل متقطع، وآخرها ما جرى مؤخرا من قصف شمالي على الجنوب، وتهديد الشمال بإشعال البحر إذا ما تم المس بها.

بشرنا كثير من الكتاب العرب وغير العرب، ومعهم عشرات الفضائيات، بربيع عربي خالص من شوائب التعصب الديني والصدوع المجتمعية.

بشرونا منذ ديسمبر 2010، خصوصا بعد "هبة" يناير (كانون الثاني) المصرية، تحدثوا عن الأمر وكأنه قضي، وعن الربيع وكأنه أزهر، وعن التزمت والجهل وكأنهما تبخرا في سماء الماضي. أتذكر جيدا كتابات وأحاديث هؤلاء، وحنقهم على من خالفهم الرأي.

الآن، كثير من هؤلاء قلق، أو مندهش، من اندلاع التعصب والتزمت والصدامات الطائفية، و"الغزوات" الاحتسابية، في تونس ومصر وليبيا واليمن.

مشكلة الغرق في مستنقعات التعصب الديني والتفتت الاجتماعي وشيوع السلاح والفوضى مرشحة للازدياد وليس للانحسار، وعلى من يراهن بأن هذه مرحلة "طبيعية" تمر بها كل الثورات أن يضع في الحسبان أيضا أن حركة التاريخ ليست كلها معادلات رياضية مكررة، فهناك دوما شيء جديد يحصل، وربما كان الجديد هذه المرة هو الغرق في الفوضى لأجل بعيد، وأستغرب أكثر حينما تتم المقارنة بمرحلة الفوضى التي تلت الثورة الفرنسية 1789، ثم استقرت الثورة على القيم الإنسانية والدستورية المعروفة إلى اليوم، والحق أن هذه مقارنة يعوزها الكثير من الجدية والدقة والمواءمة بين سياقين زمنيين وحضاريين مختلفين جدا، وأخشى أنها مقارنة رغبوية خادعة للذات تنتمي إلى عالم الأماني أكثر من حسبانها في عالم الواقع المشاهد. ما جرى في الثورة الفرنسية في تلك الأيام كان حدثا معقدا ومركبا، لكنه في ما يخص التحول الاجتماعي كان تتويجا لعقود وقرون سابقة من الوعي والتنوير الديني وعصور النور، والتحولات التي أصابت البنية الدينية المسيحية نفسها بعد الثورة اللوثرية، وغير ذلك من "الثورات" السابقة في الميدان الفكري والديني والفني والاقتصادي حتى.

الحرية والكرامة ليست مقصورة في بعد واحد، فهي منظومة متكاملة، ونحن لم نشتغل عليها كعرب ومسلمين، طيلة العقود والقرون الماضية.. لم ننجز تحولات حقيقية، بل وحاربنا كل من أراد أن يفتح باب الأسئلة.

حسنا: هل معنى ذلك أن نظل محصورين في جيب استبداد الحكام العرب؟

طبعا لا، لكن الحل، وهنا أخاطب النخب المثقفة، ليس في تهييج الشارع والتطبيل له، والكذب عليه بأنه بلا عيوب ضارة وعميقة. لو عاد بنا الزمان إلى مائة سنة سلفت لكان لدعوة المجدد الحضاري الإمام محمد عبده نصيب من النجاح حول فكرة المستبد العادل، وهي ثنائية مهمة جدا: استبداد يمنع تغول المجتمع على بعضه، وعدل يشمل التنمية والتعليم والخدمات، بحيث يمسك المجتمع بيد وتطلق قدراته الخلاقة بيد أخرى، فلا يبغي بعضه على بعض، حتى يصل إلى لحظة التوازن.

رؤية المحلق فوق الأرض، فيليكس، ربما كانت مفيدة لنا، فهي آتية من عين جوالة ترى الصورة أكبر.. والحكمة ضالة المؤمن.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف