أسباب الانسداد السوري
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
فايز سارة
بعد نحو عشرين شهرا من ثورة السوريين على نظامهم، تبدو المحصلة الإجمالية للوضع السوري شديدة القسوة، حيث تتوالى الخسائر البشرية والمادية، وتتصاعد بصورة تشير إلى أنها ماضية بالفعل نحو تدمير شامل للقدرات السورية، والسبب الرئيسي هو استمرار النظام في حله الأمني العسكري عبر ممارسة كل أنواع العنف وأعلى درجاته بهدف إعادة إحكام قبضته على الدولة والمجتمع، بينما ثورة السوريين مستمرة، تخلط في حراكها بين السياسي والعسكري من أجل إسقاط النظام دون أن يتحقق هدفها، مما يعني في المحصلة العامة، أن الطرفين في معادلة القوة الراهنة عاجزان عن الحسم، وهو ما يضع الوضع السوري أمام انسداد سياسي واضح.
وتدفع الخلاصة أعلاه إلى إثارة سؤال حول سبب الانسداد الذي صار إليه الوضع السوري. والجواب عن هذا السؤال في العادة، يحمل الخارج الإقليمي والدولي مسؤولية الانسداد، وهو جواب يحمل بعضا من الحقيقة، لكنه ليس كافيا، إذ لا يمكن القول، إن الخارج الإقليمي والدولي بملامحه وسياساته الحالية، يشكل العامل الحاسم في إدامة الأزمة السورية أو في العمل لإيجاد حل لها.
ولأن الخارج في مواقفه وسياساته لا يقدم لنا جوابا يفسر بصورة واضحة أسباب الانسداد السوري، فمن الطبيعي الذهاب نحو الداخل، بحثا عن الجواب، ليس فقط لأن في الداخل تتمركز أساسا قوى الصراع وطاقاته، وإنما أيضا لأنه المعني الأول بمجريات ونتائج الصراع، ولأن الداخل بأطرافه عنصر مؤثر على سياسات ومواقف الخارج الإقليمي والدولي من جهة ثالثة.
والتدقيق في أسباب الانسداد السوري، يجعلنا في مواجهة ثلاثة أسباب أساسية، أول هذه الأسباب هي السلطة في طبيعتها الاستبدادية والاستئثارية المغلقة، وقد قادتها طبيعتها نحو خيارات أغلقت عليها أبواب السياسة، وجعلت خياراتها في البحث عن حلول ومعالجات للأزمة محصورة في استراتيجية القوة والعنف، التي لجأت إليها مع بداية الأزمة، وكرستها تاليا متصاعدة مع استمرار الأزمة على أمل أن القوة والعنف كفيلان بمعالجة الأزمة، التي وإن حاولت السلطة مقاربتها خارج فكرة المؤامرة الكونية وأدواتها من العصابات الإرهابية والسلفية المسلحة، فقد أكدت، أن معالجة الجوانب الأخرى من الأزمة، إنما تأتي بعد القضاء على "العصابات"، واستعادة قبضتها وسيطرتها على البلاد والناس كافة.
وتعززت استراتيجية السلطة وممارساتها بحضور دعم شامل من قوى إقليمية ودولية لها أهداف وغايات، لا تتصل كلها ببنية النظام وسياساته وبضرورة الحفاظ عليه، لكنها أدت إلى ذلك بالنتيجة، خاصة أن القوى الإقليمية والدولية التي عارضت استراتيجية النظام وسياساته، لم تذهب إلى خطوات سياسية وإجرائية قوية وفعالة من شأنها دفع الأطراف كافة إلى إعادة النظر في مواقفها وحساباتها، وهو ما ينطبق بصورة أساسية على السلطة في سوريا، التي شعرت بأنه ليس هناك ما يمنع من استمرار سيرها في الطريق الذي اختارته.
أما السبب الثاني في موضوع الانسداد، فتمثله المعارضة، ورغم أننا إزاء ثلاثة مستويات من المعارضة، أولها المعارضة السياسية، والثاني هو المعارضة العسكرية، والثالثة هي الحراك الشعبي، فإن المعني الأساسي باعتباره أحد أسباب الانسداد هو المعارضة السياسية، لأنها بحكم طبيعتها ووظيفتها المسؤولة مباشرة وصاحبة دور، ينبغي القيام به للخروج من الأزمة التي تحيط بالبلاد.
غير أن المعارضة وبسبب من طبيعتها وظروفها في ظل حكم استبدادي دمر فرص مشاركتها في الحياة العامة، ودفع بفعل القمع الدموي كثيرا من كادراتها إلى الخارج، وبفعل أن ثورة السوريين جاءت خارج توقعات ومشاركة المعارضة، فقد بدت مواقف الأخيرة وسياساتها أضعف من أن تناسب زخم الثورة ومطالبها، فهي من جهة تبنت شعارات الشارع دون أن تكلف نفسها الذهاب إلى صياغة استراتيجية وخطط هدفها تحقيق تلك الشعارات والمطالب، وهي في الجهة الأخرى، راهنت على المواقف الإقليمية والدولية دون أن تتقدم في الداخل للقيام بما ينبغي القيام به سياسيا وتنظيميا في المستويين الذاتي والشعبي، وقد كرس نهج المعارضة الانفصال القائم بينها وبين المجتمع، ولا سيما في العلاقة مع الفئات الشابة، التي لم تكن تعرف المعارضة، وهكذا أضاعت الأخيرة فرصتها الذهبية بالعودة إلى حاضنتها وأدواتها في التغيير الذي طالما سعت إليه وطالبت به.
ومما لا شك فيه، أن تحميل السلطة من جهة، والمعارضة من جهة أخرى، مسؤولية الانسداد القائم في الأزمة السورية، إنما هو إشارة إلى ما يتجاوزهما وهو المجتمع السوري الحاضن الكلي للطرفين وغيرهما من الفاعليات والأطراف، التي تتحمل مجتمعة مسؤولية مشتركة في واقع الانسداد الذي صار إليه الوضع، نتيجة استقالة المجتمع من مسؤولياته، واعتكاف فعالياته عن مباشرة مهماتها، وتساهله مع السلطة التي تغولت وأسرفت في الاستهانة بالمجتمع واستعباده وصولا إلى إنكاره، وهو الذي تقاعس عن حماية نخبه، ولا سيما نخبته السياسية، وقبل بتغيبها كما قبل في انتهاكها وتدميرها، وفي كل الحالات التي حاولت طلائع منها إعادة الاعتبار للسياسة ولدور المجتمع، كان الأخير يخذلها، بل إن بعض قطاعاته تعاملت بقدر أقل من المسؤولية مع الثورة، فظهرت بوادر خذلان للثورة في بعض الأنحاء، وظهرت تخوفات في أنحاء أخرى، بينما اصطفت أنحاء إلى جانب النظام في حربه، وقد أعاق ذلك الانقسام المجتمعي والذي كانت له تجليات اختلطت فيها عوامل سياسية وطائفية ومناطقية ومصلحية، قدرة سوريا والسوريين على حسم الصراع، وبالتالي الذهاب إلى مزيد منه، وغالبا إلى الأكثر وحشية وتخلفا في الصراع.
إن أسباب الانسداد السوري تكمن في سلطتها ومعارضتها وفي مجتمعها أصلا، وهذا لا يطرح فقط موضوع صعوبة الخروج من الأزمة الراهنة، بل يطرح أيضا الصورة التي سيكون عليها مستقبل سوريا ذاتها. ذلك أنه وفي ضوء المخرج الذي سوف يتم التوصل إليه للخروج من الانسداد، سيتم رسم مستقبل سوريا والسوريين، وإن كان ثمة عجز سوري راهن وقائم في الوصول إلى المخرج، فإن المطلوب مواجهة هذا العجز أولا، وهو جهد سيحتاج إلى مساعدة الآخرين من دول وهيئات ومنظمات إقليمية ودولية، مما يعني تكاتف الجهود من أوسع القوى الداخلية والخارجية للقيام بذلك قبل فوات الأوان قبل أن تفقد سوريا القدرة على معالجة وضعها، وقدرتها التالية على الاستمرار في كيانها ووحدة شعبها ومجتمعها.