غزة مسؤولية مَنْ؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الوهاب بدرخان
خلال ستة أعوام تبلور وضع شاذ في قطاع غزة، شاذ على كل المستويات، دولياً وعربياً وفلسطينياً، ومصرياً - إسرائيلياً.
تحول القطاع إلى حقل رماية تجرّب فيه إسرائيل ما يستجد من أسلحة في ترساناتها، بل تختبر فيه منظومة "القبة الحديدية" بعد الصواريخ وتقدم للزبائن الراغبين في التسوق عرضاً ميدانياً حيّاً لفاعلية هذه المنظومة. وفي حرب 2008-2009 أظهرت إسرائيل الحدود القصوى التي يمكن أن تبلغها الحرب الحديثة باستخدام الأسلحة "المحظورة" دولياً، كما وفّرت كل العناصر اللازمة لدرس مفاعيل هذه الأسلحة على المدنيين.
أما التداعيات الأخرى لهذه الحرب، السياسية والقانونية و"الأخلاقية"، فكان بالإمكان رصدها في التلاعب بعمل لجان التحقيق الدولية، ثم بالعمل على كسر تقارير هذه اللجان كما حصل مع "تقرير جولدستون"، وأخيراً بالسعي المنظم إلى إغراق استفاقات الضمير لدى الجنود الإسرائيليين أنفسهم في متاهات أعدها الجيش بعناية خاصة من اختصاصيي علم النفس العسكري باعتبار أن وعي الجندي لجرائم الحرب ضرب من الاختلال العقلي أكثر مما هو رفض إنساني سوي للوحشية المبرمجة.
ومنذ تبنت الهيئة "الرباعية" الدولية الشروط الإسرائيلية الأربعة على حركة "حماس"، أصبحت تلك الشروط بمثابة قانون دولي رغم ما فيه من أخطاء سياسية وإنسانية اعترف بها أعضاء تلك "الرباعية" خصوصاً مع توسع إسرائيل في إساءة استخدامه لتسويغ الحصار الذي فرض على مليون ونصف مليون إنسان وجعلهم سجناء في بلدهم، بل أيضاً لتسويغ كل أنواع الجرائم التي ارتكبتها، وكأن قطاع غزة لا يعني شيئاً آخر سوى أن فيه حركة سياسية يُراد نبذها وتأديبها ومعاقبتها على رفض "عملية السلام" التي فقدت معناها حتى في التعامل الإسرائيلي الدولي مع السلطة الفلسطينية في رام الله، كان - ولا يزال - أسوأ ما في قرارات "الرباعية" ومواقفها أنها شرّعت للأميركيين والإسرائيليين خنق الضفة والقطاع، كل على حدة، ومحاربة القطاع بالضفة، والعكس بالعكس، وإدعاء دعم السلطة لأنها تواصل لعب "لعبة السلام"، وتشجيع "حماس" لأنها راغبة في تحدي السلطة وتضئيلها، بحيث يمكن القول عند الضرورة إن القضية الفلسطينية صارت برأسين، أي بلا رأس، وبالتالي فلا قضية. ما يعني استطراداً أن "الرباعية" أصحبت بلا مهمة ولا عمل، لكن يُراد الإيحاء بأنها مستمرة في إدارة النزاع، حتى لو لم تكن تدير شيئاً على الإطلاق.
ولكي تكتمل عناصر الشذوذ السياسي والإنساني لا بأس باستخدام من يرغب من العرب للقيام بأدوار ظاهرها خدمة الشعب الفلسطيني وباطنها يسعى إلى تظهير واقع أن فلسطين باتت فلسطينْين، وبالتالي فأي منهما يفترض في الجمعية العامة اعتبارها "الدولة تحت الاحتلال" أو "الدولة غير العضو".
فبعض العرب لم يتردد في العبث بالانقسام الفلسطيني يدعم ما يُسمى "السلام" من جهة ضاغطاً لإقناع السلطة بوجوب التسليم بشروط التفاوض الإسرائيلية، ويدعم من جهة أخرى خط المقاومة المسلحة التي تصر عليه "حماس" وبعض الفصائل، فإذا ببعض العرب هذا يفسد "السلام" ويضلل المقاومة.
في العدوان الجديد على غزة، تكررت ذريعة الصواريخ الفلسطينية وكأنها هي أصل المشكلة ولب الصراع. وتكرر الاصطفاف الاعتباطي للدول الغربية لمساندة إسرائيل فيما تسميه "دفاعاً عن النفس". لا أحد في الغرب يتذكر ما يحدث قبل إطلاق الصواريخ، لا أحد يرى سلسلة الاغتيالات والاستفزازات والغارات المدمرة التي تستدرج الصواريخ، ولا أحد يتمتع بالبصيرة ليدرك حقيقة أن إسرائيل مقبلة على انتخابات مبكرة، وأن قادتها يحتاجون إلى "حرب"، أي حرب، ليتمكنوا من الاستمرار ومن تحسين مواقعهم الشعبية. ولأجل ذلك هناك ساحة جاهزة في غزة، ويرحب اللاعبون فيها بأي حرب لأنهم تعمد استقلاليتهم وانفصالهم عن الضفة بالدم، وتضعف احتمالات التقارب والمصالحة.
فإسرائيل هي التي تقتل الغزيين، لكن "حماس" وأخواتها تفضل تصفية حساباتها مع السلطة في رام الله وليس مع الإسرائيليين.
هي حرب ثانية على غزة لكن مصر "الجديدة" تشعر بأنها هي المستهدفة وتحاول إثبات أن مصر تغيّرت.
نعم تغيّرت، لكن شارعها الغاضب يغلي بالشكوك في علاقة "الإخوان" بـ"حماس"، وفيما يراد لسيناء أن تكون امتداداً لغزة توكيداً لانقطاعها وانفصالها عن الضفة، عن بقية شعبها وبقية فلسطين. ماذا تكسب مصر "الإخوان" بتجميدها المصالحة الفلسطينية، أو بتشجيع "حماس" على استكمال الانفصال، بل ماذا كسبت "حماس" غير هذا الوضع الذي أنشأته في غزة وجعلته مرتعاً لكل من يريد أن يمارس أقذر الألاعيب بدءاً بإسرائيل، مروراً بأطراف "الرباعية" الدولية، وصولاً إلى من يرغب سواء كان حكومة وتنظيماً مشتبهاً به.