فلسطين عضواً في الأمم المتحدة.. لمحة تاريخ وآفاق مستقبل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد الخولي
الحق أن دولاً كبرى منها بالذات الولايات المتحدة الأميركية سبق لها وأن رصدت تنامي عدد أعضاء الجمعية العامة ومن ثم تزايد قوى وأصوات الأغلبية داخل الجمعية، مما أدى أحياناً إلى إحباط مقترحات أو مشاريع قرارات طرحتها الدول الكبرى بقدر ما كان يؤدي إلى تمرير قرارات صدرت عن الجمعية العامة لغير صالح هذه المجموعة من تلك الدول وهي دول العالم الأول كما هو معروف.
عدم الانحياز
وربما ترجع هذه الملاحظات إلى عقد الستينات من القرن الماضي وقتها حدثت الطفرة المشهودة في عضوية الجمعية العامة إذ جاء العقد الستيني المذكور ليحصد ثمرات ما آل إليه من عقد الخمسينات من نمّو حركة تصفية الاستعمار ومن اشتداد ساعد دعوات وحركات التحرر الوطني والاستقلال السياسي كيف لا وقد كانت خمسينات القرن قد شهدت قرب منتصفها انعقاد مؤتمر "باندونغ" الشهير الذي أرسى الركائز الأولى في حركة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز التي بلغت سن رشدها مع انعقاد مؤتمر "بريونى" عام 1956 بقيادة ثلاثي زعماء تلك الفترة العفية وهم "عبد الناصر" من الوطن العربي و"نهرو" من الشرق الآسيوي و"تيتو" من الوسط الأوروبى. بعدها تجلّت إلى حيث الساحة العالمية مجموعة مستجدة من الدول حديثة الاستقلال التي كانت طامحة إلى تعويض حقبة الاستغلال الاستعماري والسيطرة الإمبريالية التي طالما عانت من وطأتها. بقدر طموح تلك الدول المستجدة ونظمها الفنية إلى تفعيل آمالها من خلال خطط جديدة للتنمية في الداخل، وبقدر طموحاتها إلى أن تشكل كياناً مستجداً بدوره تجمعه المصالح الاقتصادية وطموحات التغيير مع قدر، يتسع أحياناً ويضيق أحياناً، من استقلالية القرار، وسط عالم كانت تتناوشه في تلك الفترة- الستينات بالذات- تيارات الحرب الباردة وحالة الاستقطاب الدولي الناتج عن انقسام عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين بين الشرق الشيوعي الذي يقوده الكرملين الروسي ثم الغرب الرأسمالي الذي يقوده البيت الأبيض الأميركي.
العالم الثالث
وكان طبيعياً أن تكتسب هذه القوة البازغة المستجدة وقتها على الساحة العالمية اسمها المعروف وهو: العالم الثالث.
كان طبيعياً أن تبادر أطراف هذا الكيان الجديد، وهي الدول حديثة الاستقلال، إلى الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة باعتبار أن حصولها على مقعد العضوية في الجمعية العامة هو أبلغ آيات وتجليات الدولة المستقلة.
وبفضل هذه الظاهرة من انضمامات تلك الدول المحدثة من قارات آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية بالذات كان طبيعياً كذلك أن تتسع قاعدة التصويت لصالح قضايا هذا العالم الثالث وأحياناً ضد توجهات ومآرب الدول والقوى الكبرى.
هنالك أطلقت الأدبيات السياسية الأميركية على هذه الظاهرة وصفاً لا يزال شائعاً ومتداولاً وهو: طغيان الأغلبية (أو الأغلبية الطاغية)
بعدها.. وعلى مدار عقود طويلة خلال الثلث الأخير من القرن العشرين. لم تقصر دول الغرب أميركا بالذات - في بذل جهود تستهدف مجابهة ظاهرة أغلبية دول العالم الثالث وبالذات طغيانها الذي تصوروه. وجاء في مقدمة هذه الجهود المبادرة في حالات شتى إلى منح كيانات عديدة أوضاع الاستقلال ومن ثم انضمامها إلى المنظومة الدولية لتشكل أصواتاً يمكن تعبئتها عند اللزوم لمواجهة أغلبية العالم الثالث خلال إجراءات الجمعية العامة.
الذين عارضوا
في ضوء هذا التحليل يمكن أن نفهم خلفية الأطراف التي أدلت بصوت معارض رافض للسماح بأن تنال "فلسطين" مركز الدولة - المراقب في عضوية الجمعية العامة للمنظمة الدولية.
وإذا كان بديهياً أن تكون إسرائيل هي أول من عارض صدور القرار المذكور وهو ما فعلته أميركا بدورها، ربما في ضوء ضغوط جماعات الضغط اليهودية الصهيونية ثم تابعتْها كندا، الجارة الشمالية لأميركا. وفضلاً عن دولة التشيك التي مازالت تعاني من المشاكل التي تواجهها بعد انفصالها المعروف عن جارتها "سلوفاكيا" في وسط أوروبا، فإن الأعضاء الستة المتبقين من التسعة المعارضين للقرار المذكور ضموا دولاً أو هي كيانات لا يكاد يسمع الناس عنها اللهم إلا في غمار مثل هذه العمليات من إجراءات التصويت - وأغلبها كيانات تعيش في عزلة البحر المحيط وهى: جزر مارشال ودويلات بالاو وميكرونيزيا (وهي بدورها جزر متناثرة) وناورو، فضلاً عن بنما الجار الأصغر للولايات المتحدة التي عرف العالم عنها بفضل القناة الشهيرة التي تشق أرضها (حفرها الفرنسي دي ليسبس الذي ارتبط اسمه كما هو معروف بقناة السويس في قلب العالم العربي) فضلاً عن "عَلَم بنما" الذي يمثل جانباً من إيراداتها القومية حين تسمح دولتها برفعه على العديد من السفن التي تجوب أعالي البحار.
إلى جانب الأعضاء التسعة، امتنع عن التصويت أيضاً 41 دولة فيما نال مشروع القرار المطروح لصالح عضوية "دولة" فلسطين أغلبية قوامها 138 من دول عالمنا ليصدر القرار عن الجمعية العامة متزامناً بصورة رمزية لا سبيل إلى تجاهلها. حيث جاء متواكباً مع يوم 29 نوفمبر الذي شهد بدوره قرار الجمعية الصادر عام 1947 بتقسيم فلسطين وكان تمهيداً لإعلان دولة الاستيطان الاستعماري العنصري الصهيوني التي حملت اسم إسرائيل يوم 15 مايو 1948.
إذن فقد انضمت فلسطين بصفة دولة - مراقب إلى عضوية الأمم المتحدة : أصبحت العضو رقم 194 بعد جنوب السودان فيما أصبحت العضو المراقب رقم (2) بعد "دولة" الفاتيكان التي يرد اسمها ضمن قائمة الدول الأعضاء باسم "الكرسي الرسولي".
إنجاز سياسي
وفي كل حال فذلك إنجاز لا سبيل إلى تجاهله أو إنكاره بأي مقياس.
ولكنه في نهاية المطاف إنجاز سياسي بقدر ما إنه ينطوي على إيجابيات سيكولوجية ومعنوية ورمزية في آن معاً.
وليس لأحد أن يهّون من هذه الإيجابيات بحال من الأحوال. ويكفي أن عادت فلسطين. النكبة والقضية. الشعب والحقوق كي تطرح نفسها بإلحاح على خارطة العالم الذي تعيش فيه. ويكفي أيضاً أن تتجلى في هذا الحَدَث كل معاني رفض اليأس أو نفض اليد أو أي استسلام. لمنطق الضغوط، فضلاً عن منطق التهديد أو حتى الابتزاز لتحويل قضية فلسطين، وهي قضية تحرر وطني بالدرجة الأولى، إلى قضية لاجئين ذات بعد إنساني فقط وبحيث تنتقل القضية من مستوى الأرض - الوطن. القدس. والصمود بكل أساليبه. إلى مستوى الغوث والتبرعات أو المعونات أو الرضوخ أمام أمر واقع ومفروض.
حساسية التوقيت
في نفس السياق، أشار المراقبون إلى حساسية التوقيت الذي صدر فيه قرار "دولة فلسطين".. صحيح أنه جاء مع ذكرى التقسيم النوفمبرية مرادفاً بالطبع لذكرى "النكبة" كما أصبحت تعرف في المعاجم والأدبيات السياسية الدولية، ولكن الصحيح أيضاً أن جاءت ملابسات صدوره ولمّا يسترد العالم أنفاسه بعد من عقابيل العدوان العسكري الصهيوني على قطاع غزة في عملية "عمود السحاب" إياها بكل ما ارتبط بها من مصارع المدنيين ودمار المرافق الحيوية والمنشآت المطلوبة أساساً لاستمرار الحياة. وفي هذا الإطار لم يفُت على محللي السياسة رصد تيارات المعارضة والرفض ضد العدوان الإسرائيلي المذكور بكل وقائعه الإرهابية والدموية، ومن جانب قوى عديدة في الغرب الأوروبي والأميركي على وجه الخصوص.
قال الإسرائيليون
في هذا السياق أيضاً تذهب صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية إلى الحديث عما رصدته من "زيادة" ملموسة كما وصفتها- في مظاهر العداء لإسرائيل على مستوى العالم: ومن ذلك حشود التظاهرات رفضاً للعدوان وتنديداً بالسلوك الصهيوني وخاصة بحق المدنيين، ومن ذلك ما شهدته الولايات المتحدة كما تضيف الجريدة الإسرائيلية- من 100تظاهرة أو نحوها جاء تنظيم الثلث منها على يد الآلاف من الشباب والطلاب الأميركيين داخل حرم العديد من الجامعات الأميركية وجاءت كلها ضد ممارسات جيش الاحتلال الصهيوني.
لا عجب إذن أن تبادر أركان حكومة الليكود العنصرية في إسرائيل إلي محاولة "امتصاص" ما بات يساور جماهيرهم من غضب ممرور إزاء قرار الاعتراف العالمي بعضوية فلسطين - الدولة، فإذا بهم يعلنون غداة صدور القرار عن موجة عارمة عاتية وجديدة من الاستيطان الصهيوني على حساب أرض الوطن الفلسطيني بل وبما يحول دون أي تصور عملي أو معقول لقيام دولة فلسطينية منشودة على رقعة ممتدة ومتماسكة ومتكاملة من الأرض. وربما بلغ هذا الاتجاه من الاستفزاز الصريح لدرجة اضطرت الإدارة الأميركية ذاتها أن تعلن إدانتها لهذه الخطوة مع الإحالة على لسان "تومي فيتور" أحد الناطقين باسم البيت الأبيض- إلى موقف واشنطن الثابت في معارضة بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية (نيويورك تايمز، 30/11/2012).
الانضمام للمحكمة
في هذا المضمار أيضاً تشير "التايمز" كذلك في تحقيق استقصائي بقلم ثلاثة من كبار محرريها- (عدد 29/11) إلى ما يساور أوساطاً غربية شتى من هواجس إزاء ما قد تُقْدم عليه السلطة الفلسطينية بعد صدور القرار الأخير - من استخدام مركزها الدولي الجديد في محاولة للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية. وهو ما يتيح بموجب النظام الأساسي للمحكمة الدولية بدء تحقيقات ميدانية واسعة النطاق في الممارسات التي طالما أقدمت إسرائيل على انتهاجها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى مرأى ومسمع من العالم. فما بالنا عندما يخلص محققو المحكمة ومدّعوها العامون وقضاتها الدوليون إلى إدانة هذا المسؤول الصهيوني أو ذلك بارتكاب أفعال يصدق عليها تعريف "جريمة الحرب " أو " الإبادة الجماعية " (جينو سايد) أو الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.. والسوابق عديدة في هذا الخصوص.
قضايا الشعوب بين الجمعية العامة ومجلس الأمن
النظرة التحليلية إلى ملابسات التصويت مؤخراً في الجمعية العامة للأمم المتحدة تفيد بأن قضية فلسطين مازالت تحوز اهتمام ومسانده أغلبية كبيرة - حتى لا نقول ساحقة - من مفردات المجتمع الدولي وهي الدول التي تتمتع بعضوية الجمعية العامة بعد أن بلغ عدد مؤيدي انضمام فلسطين بصفة دولة - مراقب في الجمعية العامة (أسوة بدولة الفاتيكان) إلى الهيئة الدولية، وهو ما زاد عضوية الهيئة المذكورة التي تمثل أعلى مستويات صنع القرار في المنظومة العالمية لتبلغ 194 دولة بما في ذلك 9 دول عارضت القرار المذكور، وضمت إلى جانب كل من إسرائيل وأميركا وبنما، ست دول معظمها من جزر المحيط الصغيرة وهي تلك التي حرصت أميركا في الفترات الأخيرة على التمهيد لحصولها على الاستقلال لغرض ضمها إلى عضوية الجمعية العامة، وفي إطار جهود حرصت واشنطن على بذلها لمواجهة ظاهرة ما وصفته بأنه "طغيان الأغلبية" - الظاهرة التي تجلّت في عضوية الجمعية العامة منذ عقد الستينات من القرن الماضي بعد حصول العديد من الدول النامية على الاستقلال في مرحلة ما بعد الكولونيالية، ومن ثم دخولها كأعضاء بأعداد كبيرة في الجمعية العامة، وهو ما جعل هذه الأطراف المستجدة على الساحة الدولية - وأطراف "العالم الثالث" كما وصفوها، تتمتع بكتلة تصويتية كبيرة وقد استطاعت أن ترجح التصويت لصالح فلسطين في الأيام القليلة الماضية. وبعد هذه النتيجة لجأت إدارة نتنياهو إلى مجابهة الموقف أو "امتصاص" هذا الإنجاز الفلسطيني فأعلنت عن مواصلة حركة الاستيطان فيما أعربت أوساط أخرى عن القلق إزاء احتمال انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية بكل ما ينجم عن ذلك من آثار.كان طبيعياً أن يتوقف محللو الشأن السياسي الدولي عند السلوك التصويتي على مشروع القرار الذي نظرت فيه مؤخراً الجمعية العامة للأمم المتحدة. وحمل عنوان قبول فلسطين دولة بصفة أو بمركز "مراقب" في الجمعية العامة التي تعد - بموجب بنود ميثاق المنظمة الدولية - أكبر هيئات المنظومة الدولية فيما تتبعها حسب أحكام الميثاق المذكور - أجهزة ولجان ومفوضيات وبرامج وصناديق تصّب أعمالها في التحليل الأخير في نهر الجمعية العامة التي تُعد بداهة برلمان الشعوب أو هي الساحة العالمية التي يسمع علي صعيدها أصوات الدول بكل ما تحفل به هذه الأصوات من شكاوى ومعاناة وطموحات.
يأتي في مقدمة الأجهزة المذكورة "مجلس الأمن" الدولي بعضويته التي أصبحت تحمل صفة ذائعة في قاموس الإنجليزية وتعبر عنها كلمة "أناكرونستك" بمعنى أن تَجَاوزه زمن التطور وأصبح مجلس الأمن وقد شابت على منصته الليالي كما يقولون، وذلك في ضوء ما استجد على عالمنا من متغيرات كانت جديرة بأن تقتضي من المجلس أن يعيد النظر في تكوينه وفي عضويته التي مابرحت احتكاراً لخمسة من أعضائه الدائمين يتمتعون بحق النقض (الفيتو) الشهير الذي يؤدي أحياناً إلى إحباط صدور قرارات تمّس في الصميم حياة الشعوب وخاصة في العالم الثالث - بل وتؤدي أحياناً كذلك إلي إحباط وإجهاض أحلام تلك الشعوب في مواجهة القوى الدولية العاتية التي مابرحت تستخدم تركيبة مجلس الأمن وقد تجاوز عمرها كما هو معروف- 67 عاماً بالتمام والكمال.
من هنا ظلت الجمعية العامة أقرب إلى ساحة الانتصاف المتاح أمام دول العالم الثالث بالذات، حيث لا تزال هذه الدول تتمتع بأغلبية مريحة بكل معنى إزاء عملية التصويت على مستوى الجمعية العامة، وهو ما يضفي على آليات هذا المنبر الدولي لمسة من تحقيق الذات وقدراً لا ينكر من تهيئة سبل الإنصاف، وخاصة في ضوء مساواة الدول في السيادة وهو المبدأ المكّرس باستمرار في قواعد القانون الدولي المعاصر.