تونس على إيقاع الصراع الساخن بين الاتحاد والحكومة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
توفيق المديني
رغم دعوة حكومة الترويكا التي تقودها حركة النهضة الإسلامية، في بيان نشرته على صفحتها الرسمية على موقع "فيسبوك"يوم الجمعة 7ديسمبر الجاري، "الاتحاد العام التونسي للشغل" بالعدول عن الإضراب العام، الذي كان دعا إليه يوم 13 ديسمبر الجاري، فإن الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة أمينه العام حسين العباسي ماض في دعوته إلى تنظيم هذا الإضراب الوطني العام رداً على تعرض مقره الثلاثاء 4 ديسمبر الجاري لهجوم نفذه مئات من المحسوبين على حركة النهضة، في وقت نُفّذت إضرابات في أربع ولايات مختلفة، هي سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وصفاقس، قبل يومين. وكانت وزارة الداخلية أعلنت أن أغلب مهاجمي مقر الاتحاد ينتمون إلى "الرابطة الوطنية لحماية الثورة"، المحسوبة على حركة النهضة، في وقت عبّرت "الجامعة العامة التونسية للشغل"، التي تأسست في العام 2011، عن دعمها وتضامنها مع الاتحاد.
عندما استلمت حركة النهضة الإسلامية السلطة، لم تدرك أن الشعب التونسي الذي صنع ثورته، وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديمقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد، وانتهاج خيار اقتصادي واجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والتي أدت في الواقع إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة، وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة، التي تعتبر أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس. ليس لحركة النهضة الإسلامية نظرية للاقتصاد، بل هي منساقة في نهج الليبرالية الجديدة التي سقطت في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من الدول الرأسمالية الغربية عقب وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، ولم تقم بمراجعة نقدية للنموذج الرأسمالي الطفيلي الذي كان سائداً في تونس، حيث وصل إلى مأزقه المحتوم.
ولهذا السبب عجزت حركة النهضة عن مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس في زمن ما بعد الثورة، لأنها لا تعرف حاجات الشعب التونسي الاقتصادية والمعيشية فلم تهتم بها، وأخفقت أيضاً في بلورة خطة حقيقية للتنمية المستدامة تقطع مع نهج التبعية، فاستخدمت الشريعة كي تبيع الفقراء صكوكاً في الجنة، هذا في حين حافظت على عقد الصفقات المشبوهة مع الليبرالية الجديدة المتشكلة من ناهبي مرحلة بن علي المخلوع، وتركت البلد للأغنياء الذين سبق أن مارسوا جميع أنواع النهب في عهد النظام السابق، واعتمدت على الاستثمارات الأجنبية وعلى السياحة، وعلى ما يرد من دول أجنبية وشركات خاصة دون أن تقدم برنامجاً لعمل الإنتاج الزراعي والصناعي، أو حتى الخدمي.
ومنذ انخراطه في الثورة التونسية، عمل الاتحاد العام التونسي للشغل على محو الحقبة السوداء التي عاشها في ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، واستعادة عافيته، وتوسيع قاعدته بوصفه القوة الوازنة الرئيسة في البلاد التي استقطبت حوله ليس المنظمات الأهلية فحسب، وإنما أيضاً غالبية الأحزاب الصغيرة. فمن الناحية التنظيمية يمتلك الاتحاد العام التونسي للشغل فروعاً في كل محافظات البلاد، ولديه قدرات تعبوية كبيرة، وهذا ما جعله يلعب دور المحرّك للثورة التونسية. ونظراً لهذا الثقل الجماهيري الذي يتمتع به الاتحاد العام التونسي للشغل في تونس حيث يبلغ عدد منتسبيه خمسمائة ألف عضو، العديد منهم كانوا منتسبين إلى "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي" المنحل، فإن هذا الاتحاد الذي تتعايش في داخله اتجاهات سياسية متعددة، أسهم في تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى، وأسهم أيضاً في إسقاط حكومة الغنوشي الثانية، وباتت كلمته مؤثّرة في تسيير دفّة السياسة في البلد في الوقت الحاضر..
وبما أن تونس تعيش حاليا مخاض ثورة ديمقراطية عميقة، وهي بصدد بناء نظامها الديمقراطي الجديد، فمن الواضح أنه بعد إجراء الانتخابات الأخيرة لم تتبلور "معارضة"سياسية جاهزة، بجسمها الحزبي ومشروعها الوطني الديمقراطي، لتعطيل ما يجب تعطيله، انسجاما مع مبدأ الديمقراطية الذي لم تعهده تونس ما قبل الثورة، وللتصدّي للظاهرة الأصولية الإخوانية. لهذا، أصبح الاتحاد العام التونسي للشغل القوة الموازنة للوقوف في وجه حركة النهضة، ويلعب دور الحزب المعارض والمنافس لحركة النهضة.
وتُعَّدُ الدعوة إلى الإضراب الوطني العام من جانب الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 13ديسمبر الجاري، الثالثة في تاريخه، إذ سبق للاتحاد أن أعلن الإضراب العام مرتين: الأولى في 26 يناير العام 1978، في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وترافق وقتها مع أحداث دامية، وقمع شديد من السلطات. أما المرة الثانية، فكان إضراباً عاماً لساعتين فقط، يوم 12 يناير العام 2011، قبل يومين فقط من سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. فالاتحاد ناضل في سبيل تحقيق الاستقلالية الكاملة للمنظمة النقابية، وأسهم بصورة فعالة في صنع الثورة التونسية، حيث جعلت هذه الثورة من الشعب التونسي كياناً جديداً يحاسب ويطالب ويتظاهر ويسقط أنظمة، ما دامت لديه الحيوية الثورية.
أمام هذا الرفض الشعبي المتصاعد ضد توجهاتها الأيديولوجية، وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وأساليبها القمعية المستعارة من النظام السابق، وأخطائها المتكررة، من خلال طرحها مشروع الإقصاء السياسي، وتمسكها بما يسمى بمليشيات "رابطات حماية الثورة" التي أصبحت منبوذة من قبل مختلف الأطراف السياسية، وانتهاجها طريق الصدام مع الاتحاد العام التونسي للشغل، علماً بأن هذا الصدام مكلف جدا ماديا ورمزيا ووطنيا ودوليا، ولغير مصلحتها، وإخفاقها في الانفتاح على قوى المعارضة الديمقراطية، مثل حزبي المسار والجمهوري، ولكنها لم تجد قبولا، ومكابرتها تزايد عزلتها السياسية في البلاد، آن الأوان لحركة النهضة الإسلامية إذا أرادت أن تكون مُكَوِناً أساسياً من مكونات المجتمع المدني التونسي الحديث، أن تقوم بمراجعة جذرية لبرنامجها.
على حركة النهضة الإسلامية، أن تغير في خطابها السياسي والأيديولوجي، لاسيما عندما تشهر سلاح امتلاكها الشرعية الانتخابية في وجه خصومها من الأحزاب السياسية المعارضة والنقابات، حيث صوت مليون وثلاثمائة ألف لمصلحتها في انتخابات 23 أكتوبر 2011، الأمر الذي جعلها تحتل المرتبة الأولى. فحركة النهضة الإسلامية في حاجة لأن تدرك أن هذا الجسم الانتخابي الذي صوت لها ليس صكاً مفتوحاً على بياض، لأن الناخبين الذين صوتوا لها، بإمكانهم أن يغيروا قناعاتهم، لاسيما أن الكثيرين من المحتجين الآن على سياسات الحكومة كانوا قد صوّتوا للثلاثي المكوّن لها.
على حركة النهضة أن تدرك مسألة في غاية من الأهمية، أن الثورة التونسية مستمرة، ولا يجوز تقزيمها أو اختصارها إلى صناديق الاقتراع، وأن مزاج الشعب التونسي يتغير في كل لحظة، ويشتعل في كل آن، وأن الأكثرية التي تتمتع بها حركة النهضة الإسلامية اليوم، وإن كانت شرعية في السلطة، فهي تصير أقلية في السلطة غداً، وأن الأقلية في الأمس صارت أكثرية في الشارع اليوم؛ والأكثرية في الشارع اليوم تسقط أنظمة وتلغي رؤساء منتخبين. هذا هو جدل الصراع الديمقراطي بين السلطة والمعارضة.
والحال هذه لا يجوز لحركة النهضة الإسلامية أن تتمسك بديمقراطية الانتخابات، مستخدمة ميليشياتها الملقبة بـ"رابطات الدفاع عن الثورة"، لأن تمسكها بهذه المليشيات، وعدم الانصياع لرغبة الشعب التونسي المطالبة بحل هذه المليشيات ستقود إلى إحلال فاشية جديدة في تونس. وحين تحل الفاشية في أي بلد في العالم، فإن مصيرها دموي، مصيرها فتنة، والفتنة أشد من القتل. وهي تقود إلى الحرب الأهلية.
إذا كانت حكومة النهضة جادة في حل الأزمة الخطيرة التي تمر بها تونس اليوم، فطريق الحل بات معروفاً، ويتمثل في تمسك حركة النهضة الإسلامية بالخيار الديمقراطي، وبتقديمها اعتذارا للاتحاد، وإيمانها بالتسوية السياسية التي تقوم بتطبيق سياسة التوافق في الحكم بين مختلف الأطراف: حكومة الترويكا من جهة والقوى السياسية والنقابية المعارضة من جهة أخرى، وحل "رابطات حماية الثورة"، وتحديد خريطة طريق الانتقال الديمقراطي، وموعد الانتخابات المقبلة، وهو مطلب تجمع حوله المعارضة والمجتمع المدني وحتى شركاء النهضة في الحكومة.