الثورة التونسية في سنتها الثالثة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
توفيق المديني
في 17 ديسمبر من عام 2010، انطلقت الثورة التونسية من ولاية سيدي بوزيد، ونجحت في 14 يناير من عام 2011، في إسقاط النظام الديكتاتوري الذي كان يهيمن عليه الرئيس زين العابدين بن علي وعائلته المافياوية، وأثبتت أن الشعب التونسي قادر على صنع التغيير، وتحطيم بنية الديكتاتورية، وإطلاق نسمة الحرية تهب على العالم العربي.
وتفاءل الشعب التونسي خيراً، لتحقيق أهداف ثورته في الحرية والكرامة الوطنية، لكن وصول حزب النهضة الإسلامي إلى السلطة، وتحالفه مع الأحزاب الدينية والسلفية الأخرى، وعجزه عن تحقيق أهداف الثورة التونسية، وتوجهه العام نحو استبدال ديكتاتورية ابن علي ونظامه الفساد بديكتاتورية إسلامية بديلة ونظام أكثر فساداً مع دخول عوامل أخرى خطيرة مثل التطرف السلفي الجهادي، ومحاولات الهيمنة واستغلال الفرصة للسيطرة على مفاصل الدولة التونسية، لاسيَّما من خلال محاولات ممارسة القمع ضد مكونات المجتمع المدني التونسي، وفي طليعتها النقابات العمالية، وفرض أجندات بالإكراه مع كم الأفواه وترهيب المثقفين والإعلاميين والأدباء والفنانين وهم من طلائع الشعب التونسي، مع استخدام أسلحة التكفير والحرم واستخدام الدين لتبرير القمع، كل هذه الممارسات حولت الثورة التونسية التي فجرت ربيع الثورات العربية إلى شتاء قاس، إذ لم تنجح المعارضة الديمقراطية في تونس في كسب الوقت من أجل فتح الطريق أمام تأسيس دولة مدنية وديمقراطية تعددية.
هذا الإحباط الشعبي ظهر في الاحتفال بالذكرى الثانية لمرور سنتين على انطلاقة الثورة التونسية، حين تعرض الرئيس المنصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر اللذان حضرا إلى مدينة سيدي بوزيد مهد الثورة لتونس ولربيع الثورات العربية، ومسقط رأس محمد البوعزيزي الذي عُمّد أيقونةَ الثورة، إلى الرشق بالحجارة، وبالبندورة، قبل أن ينسحبا سالمين إلى موكبهما العائد إلى تونس. ولوحظ غياب رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي عن هذا الاحتفال، نظرياً لـ"أسباب صحية، لكنه في الواقع أراد أن يتفادى بشكل استباقي ما يمكن أن يتعرض لما تعرض له رئيس الدولة ورئيس المجلس التأسيسي، من قبل الجمهور الغاضب في مدينة سيدي بوزيد، الذي طرد الوالي المحسوب على حركة النهضة في شهر سبتمبر الماضي.
وهتف المتظاهرون "الشعب يريد إسقاط الحكومة" قبل أن يتقدموا باتجاه المنصة حيث كان رئيس الجمهورية مع رئيس المجلس الوطني التأسيسي، ولكن لم يحصل صدام بين المتظاهرين وعناصر الشرطة في المكان. ولما بدأ الرئيس التونسي بإلقاء كلمته بدأ قسم كبير من الحضور الذي قدر بنحو خمسة آلاف شخص بالهتاف "ارحل ارحل"، وهو الهتاف المشهور الذي كان يطلق بوجه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي قبل سقوطه في 14 يناير 2011.
وقال المرزوقي "أفهم هذا الغضب المشروع إلا أن الحكومة حددت الداء وخلال ستة أشهر ستشكل حكومة تصف الدواء لشفاء البلاد مما تعاني منه". مضيفاً وسط هتافات الاستهجان من الحضور "للمرة الأولى لدينا حكومة لا تسرق أموال الشعب". ويعتبر المرزوقي شخصية غير مرغوب فيها في سيدي بوزيد إذ تعرض للطرد منها في أوائل سنة 2011، عندما عاد من منفاه، وقام بزيارة ضريح محمد بوعزيزي، البائع المتجول الذي أحرق نفسه في السابع عشر من ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد، ما أطلق الثورة الشعبية التي أطاحت بابن علي.
كان جمهور سيدي بوزيد ينتظر في هذه المناسبة التاريخية، أن تقدم الحكومة التونسية لائحة بمشاريع تنموية لمدينة محرومة من كل شيء، فإذا به المرزوقي يحثهم على الصبر عندما قال الرئيس: "تونس في عنق الزجاجة، ولابد من الصبر". لقد مرت سنتان، وعجزت حكومة الترويكا عن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المستحدثة والموروثة من العهد السابق.
وخلال هذا الوقت، لم تنجح حركة النهضة الإسلامية في تحقيق النهوض الاقتصادي بالولايات المحرومة (في الوسط والجنوب والشمال الغربي) والمنتمية لتونس العميقة، والتي كانت تتلقى أقل من 20 في المائة من الاستثمارات والميزانيات المخصصة للتنمية، في الوقت الذي كانت فيه تونس الساحلية نمال حصة الأسد من مشاريع التنمية والاستثمارات، ما زاد في تعميق هوة النمو في تونس، بين المدن الساحلية والمدن الداخلية. في سيدي بوزيد، تزيد نسبة البطالة عن 30 في المائة وعن 20 في المائة في ما جاورها من تونس الساحلية. أما بطالة حاملي الشهادات العليا فهي الأقسى في المدينة، ولا أمل أن يحل القطاع الخاص واستثماراته المشكلة، فالمستثمرون لن يأتوا إلى أرض لا بنى تحتية فيها ولا طرق ممهدة كافية ولا خدمات إدارية حقيقية، الاستثمارات ستذهب إلى مدن الساحل كالعادة، حسب رأي الخبراء في مجال التنمية البشرية.
وفضلاً عن ذلك، فإن حركة النهضة التي جاءت بها انتخابات 23 أكتوبر 2011 إلى سدة الحكم، وشكلت حكومة الترويكا عبر التحالف مع حزبين علمانيين لم تستطع إلى حد الآن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منه تونس. ومن الواضح أن حركة النهضة لم تتمكن من استغلال الفرصة التاريخية التي أهدتها لها الثورة. فعدم قدرتها على تسيير البلاد بما يتماشى مع الانتظارات الشعبية، وإخفاقها في حل الأزمات المتتالية بالشكل المطلوب، أثبتتا أنها حركة معارضة لا حركة قادرة أن تسير حكومة، وتدير شؤون البلاد بحنكة سياسية. فهي ليست مؤهلة لكي تكون حزب سلطة يمتلك مشروعاً مجتمعياً قادراً أن يلبي الانتظارات الحقيقية للشعب التونسي، لاسيَّما أن العديد من الملفات مازالت عالقة تراوح مكانها ولم تسجّل أي تقدّم مما سبّب الكثير من الاعتصامات والاحتجاجات والانفلاتات في أغلب الجهات.
فما قامت به حركة النهضة هو سعيها القوي نحو بسط سيطرتها على الولايات الأربع والعشرين في البلاد، وإن عاد بعضها إلى شريكيها في الحكم المؤتمر من أجل الجمهورية (المنصف المرزوقي)، والتكتل من أجل العمل والحريات (مصطفى بن جعفر) في إطار المحاصصة الحزبية. ولما كان الولاة في معظمهم يعينهم رئيس الحكومة باعتباره الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية، فإنه حرص على تعيين الولاة من الدائرة الحزبية الضيقة لحركة النهضة، أي الموالين للإسلاميين، رغم أن العديد من الولاة الذين تم تعيينهم لا يتمتعون بالكفاءة لإدارة مشاريع التنمية.
ويتمتع الوالي في تونس بسلطة تنفيذية حقيقية، إذ يعين الموظفين الأساسيين في الولاية التي يحكمها، والمعتمديات والبلديات، الأمر الذي يمنح حركة النهضة الإسلامية سلطة على مستويات البلاد كافة، وهذا يخدم مخطط النهضة الذي يستهدف وضع اليد والسيطرة على كامل مفاصل الدولة. لهذا السبب، كانت عمليات التنمية في البلاد معطلة، ليس بسبب العجز عن تمويلها، بل لأن حركة النهضة لا تملك الكوادر المتخصصة بذلك، كما أن الخبرة تنقصها لإدارة الشؤون المحلية في الولايات.
تدخل الثورة التونسية سنتها الثالثة، والسؤال المطروح إلى أين تتجه؟
من المؤكد أننا لا نزال في بداية الطريق الطويلة، وعلى الشعب التونسي ومكونات المجتمع المدني الحية ألا تستسلم لمشاعر الإحباط واليأس وخيبة الأمل التي يثيرها ربيع الثورات العربية. فما تحقق هو انتصار كبير لإرادة الشعب التونسي على الديكتاتورية وإثبات دامغ بأن الظلم لا يدوم وأن الحق سينتصر على الباطل مهما طال الزمن، وأن لا مكان بعد اليوم لاستبدال ديكتاتورية بوليسية بديكتاتورية إسلامية أو بحكم حزب النهضة الإسلامي الذي يحاول عبثا الاستئثار بالحكم وأخذ الشعب التونسي رهينة لطموحاته ومطامعه وأنانياته، من أجل إقامة دولة هيمنة حزبية مستدامة أساسها "تحييد" الجيش، وإغراق أجهزة "الدولة العميقة"، ونقل النقاش العام إلى الحيز الديني الهوياتي، لبناء أكثرية ساحقة وعزل المعارضة الديمقراطية، وتقسيمها واستتباع السلفيين.