المشاهير يفارقون حمص
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سمير عطا الله
شعت الأضواء فجأة على مدينة منسية تدعى حمص، وكلها للأسف أضواء حزينة. ليس فقط الأضواء على دمائها وعذابها، بل أضواء صلتها بالعالم. فقد لمع الاسم أمميا يوم وفاة ستيف جوبس، إذ تبين أن والده مهاجر من المدينة، وبالذات من حي الجندي الذي بدأ القصف به. وخلال أسبوع فقدت الصحافة الأنغلوساكسونية أشهر اسمين في تغطية الحروب: أنطوني شديد، الأميركي اللبناني، وماري كولفين، الأميركية الآيرلندية.
مات شديد بنوبة ربو لأنه لم يكن يعرف أنه مصاب بحساسية من الخيول. أماته الحصان الذي ركبه للعودة متسللا إلى تركيا. أما ماري كولفين، التي كانت قد فقدت إحدى عينيها في حرب التاميل، فقضت هذه المرة بالقذيفة الأخرى، وفقدت روحها. ومعهما فقدت الصحافة العالمية رجلا وامرأة كان لهما هَمّ واحد: الناس. لا أهل السياسة ولا أهل القرار ولا أهل القتال. الناس... فقط الناس. الضحايا وليس نوع وحجم القذائف.
اختلف شديد عن كولفين بأسلوبه. لعله كان يريد أن يصبح ذات يوم أرنست همنغواي آخر، ولعله كان مؤهلا لذلك. لقد حول الحروب والمآسي إلى ما هي عليه حقا: ليست خبرا وأعدادا وأمكنة، بل هي أولا وأخيرا ظلم ومآسٍ وعذاب وموت.
ترددت في رثاء أنطوني شديد، في الشرق والغرب، كلمة واحدة: التواضع. يقول رامي خوري في "الديلي ستار" إن الصحافي الذي ودع الحياة في حمص عن 43 عاما كان يذوب تواضعا أينما حضر. لم يغره ألق ولا شهرة. وظل يعمل وكأنه بدأ الصحافة للتو. ومثل ماري كولفين أصيب بالرصاص لكنه عاد إلى أرض المعركة.
لا أعرف كيف تقوى يد المراسل على الكتابة في مثل هذه الحالات، لكنني أعرف أن شجاعتهم المهنية والأخلاقية لا حدود لها إلا الموت. حتى ملامسة الموت لا تعني لهم شيئا. سارت ماري كولفين في أدغال سريلانكا 30 ميلا وراء خبر قد لا ينشر في اليوم التالي. وأي عناء وخوف وصعوبات تكبدا، هي وشديد، (وطبعا الباقون) من أجل الوصول إلى حمص حيث لا ماء ولا كهرباء ولا خبز ولا شيء سوى القصف؟
يشتهر موت المراسلين أكثر من الضحايا الآخرين. وليس في ذلك عدل ولكنْ فيه سبب: لأنهم مشاهير. ولأنهم يموتون في أمكنة ليسوا منها. ولأنهم يحرصون على تغطية أخبار الضحايا والضعفاء، هنا اليوم وهناك غدا. فالأمكنة المصابة لا تتذكر حتى أسماءهم. وإن كانت تيمور الشرقية تتذكر ماري كولفين لأنها اعتصمت مع 1500 رهينة إلى أن أنقذوا.
مضحك أن يطلق كل من شاء صفة "مهنة المتاعب" على الصحافة لمجرد أنه يسهر الليل مثلا. تكون هذه مهنة المتاعب حقا عندما يختار الصحافي الذهاب إلى حمص على فرس في ثلوج فبراير (شباط) وهو مصاب بالربو، أو فاقدا إحدى عينيه.