صمت الحملان في الجولان.. وعواء الذئاب في حمص
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
صبحي حديدي
مرّت، قبل أيام، الذكرى الثلاثون للإضراب الكبير الذي نظمه المواطنون السوريون في بلدات وقرى هضبة الجولان المحتلة، الذي بدأ يوم 14/2/1982 وامتدّ حتى 19/7 ذلك العام، وعُدّ الأطول في تاريخ سورية الحديث. وكان الإضراب بمثابة حركة الاحتجاج الأوسع نطاقاً، والأرقى تنظيماً، والأرفع التزاماً، ضدّ قرار الحكومة الإسرائيلية بتاريخ 14/12/1981، ثمّ الكنيست بعدئذ، وقضى بضمّ الجولان. وثمة عشرات التفاصيل المشرّفة التي اقترنت بتنفيذ ذلك الإضراب، والتي يتناقلها الجولانيون بفخار مشروع، واعتزاز بالغ لا يخلو من غصّة كبرى: موقف التخاذل الذي اتخذه النظام السوري إزاء خطوة ترقى إلى مستوى إعلان الحرب، والتزامه صمت القبور على خطوط الجبهة كافة، لا سيما وأنّ أجهزة النظام الأمنية ومعظم وحداته العسكرية الخاصة الموالية كانت منهمكة بتنفيذ المجازر في الداخل، ضدّ مدن وبلدات وقرى سورية!
وحين بدأ إضراب الجولان المحتل، كانت 12 يوماً قد انقضت على شروع النظام السوري في تنفيذ مجزرة حماة (30 إلى 40 ألف قتيل)؛ وقبل، وبعد، القرار الإسرائيلي بضمّ الجولان كان النظام قد ارتكب مجازر أخرى (جبل الزاوية، 13ـ15/5/1980: 14 ضحية؛ سرمدا، 25/7/1980: 11 ضحية؛ سوق الأحد، حلب، 13/7/1980: 43 ضحية؛ ساحة العباسيين، دمشق، 18/8/1980: 60 ضحية؛ حيّ المشارقة، حلب، 11/8/1980، صبيحة عيد الفطر: 100 ضحية...). وإلى جانب هذه المجازر التي شهدتها التجمعات السكانية المختلفة، كان السجون السورية تشهد تصفيات جماعية مباشرة (مجزرة سجن تدمر، 27/6/1980: 500 ضحية على الأقل)، أو مئات الحالات من الموت جرّاء التعذيب.
المفارقة المريرة، في ناظر أهل الجولان وأهل سورية عموماً، كانت مقدار اللاتناسب بين ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية الهادفة إلى كسر الإضراب، وسلوك أجهزة النظام السوري في حصار المدن وقصفها وارتكاب الفظائع هنا وهناك.
ولقد توفّر إجماع لدى مراقبي تلك الحقبة، سانده المنطق السليم البسيط، بأنّ مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك؛ وأرييل شارون، وزير الدفاع الصقر؛ ويوسف بورغ، وزير الداخلية الممثل للأحزاب الدينية المتشددة؛ وجدوا أنّ الفرصة سانحة لضمّ الهضبة المحتلة، في هذا التوقيت تحديداً. ولم يكن السبب أنهم استغلوا انشغال جيش النظام بمعاركه ضدّ الشعب السوري، إذْ كانت الحكومة الإسرائيلية واثقة تماماً أنّ الأسد الأب لن يحرّك ساكناً في كلّ حال؛ بل لأنّ ضمّ الجولان آنذاك كان سيمرّ دون حرج دبلوماسي دولي، ودون تعاطف مع نظام يذبح مواطنيه في طول سورية وعرضها، وبالتالي فهو غير مكترث بخسران أرض محتلة هو عاجز أصلاً عن تحريرها، لا بالحرب ولا بالسلام.
إنصاف ذاكرة الجولان الوطنية يقتضي الإشارة إلى نضالات الجولانيين قبل الإضراب، وقبل قرار الضمّ، حين أخذت سلطات الاحتلال تعتمد سلسلة إجراءات إدارية تستهدف 'تذويب' الهوية الوطنية السورية؛ وهي الذاكرة التي يسردها الصحافي والكاتب الجولاني حسان شمس، في دراسة مفصلة معروفة، وجيدة التوثيق. على سبيل المثال، هنالك وثيقة شهيرة صدرت عن اجتماع حاشد عُقد في مجدل شمس، يوم 52/2/1981، ولكنها صارت عهداً ينتظم أبناء الجولان، من جهة؛ كما يفصل القول في طبيعة علاقتهم بالوطن الأمّ، وبالاحتلال، من جهة ثانية. الوثيقة تقول التالي عن الجنسية العربية السورية: 'نعتزّ ونتشرّف بالانتساب إليها، ولا نريد عنها بديلاً، والتي ورثناها عن أجدادنا الكرام، الذين تحدّرنا من أصلابهم، وأخذنا عنهم لغتنا العربية التي نتكلّمها بكل فخر واعتزاز، وليس لنا لغة قومية سواها، وأخذنا عنهم أراضينا الغالية على قلوبنا وورثناها أباً عن جد منذ وجُد الإنسان العربي في هذه البلاد قبل آلاف السنين'.
كذلك ترفض الوثيقة 'أي قرار تصدره إسرائيل من أجل ضمّنا للكيان الإسرائيلي، ونرفض رفضاً قاطعاً قرارات الحكومة الإسرائيلية الهادفة سلبنا شخصيتنا العربية السورية'؛ ولا تعترف 'بشرعية المجالس المحلية والمذهبية، لكونها عُينت من قبل الحاكم العسكري الإسرائيلي وتتلقى تعليماتها منه، ورؤساء وأعضاء هذه المجالس لا يمثلوننا بأي حال من الأحوال'؛ وأنّ 'الأشخاص الرافضين للاحتلال من خلال مواقفهم الملموسة، والذين هم من كافة قطاعاتنا الاجتماعية، هم الجديرون والمؤهلون للإفصاح عمّا يختلج في ضمائر ونفوس أبناء مجتمعهم'. ولا تتردد الوثيقة في توجيه إنذار صارم إلى مخالفي هذا الإجماع الوطني: 'كل شخص من هضبة الجولان السورية المحتلة، تسوّل له نفسه استبدال جنسيته بالجنسية الإسرائيلية، يسيء لكرامتنا العامة، ولشرفنا الوطني، ولانتمائنا القومي، ولديننا وتقاليدنا، ويعتبر خائناً لبلادنا'؛ وأيضاً: 'كل من يتجنس بالجنسية الإسرائيلية، أو يخرج عن مضمون هذه الوثيقة، يكون مجحوداً ومطروداً من ديننا ومن ترابطنا الاجتماعي، ويحرّم التعامل معه، أو مشاركته أفراحه وأحزانه أو التزاوج معه، إلى أن يقرَّ بذنبه ويرجع عن خطأه، ويطلب السماح من مجتمعه، ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية'.
هذه المناخات الوطنية المشرّفة كانت النقيض التامّ، الجليّ والبيّن والصارخ، للسياسات اللاوطنية التي كان النظام السوري ينتهجها، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، فضلاً عن تقاليد الاستبداد والفساد التي أخذت تتوالد وتترسخ منذ فجر 'الحركة التصحيحية'، خريف 1970. كان استبعاد السياسة من مفردات الحياة اليومية يترافق مع خنق المعيش اليومي وتحويل المواطن إلى راكض خلف رزقه الشحيح، كفاف يومه أو أقلّ؛ وكانت هذه الحال ركيزة لترويض الاحتجاج وتدبير الولاء في آن معاً، وتكريس أشكال التمييز بين المواطنين، وتحويل أنساق التدجين على أسس طائفية إلى خيار ستراتيجي لبناء جمهور النظام... كل ذلك، والجولان المحتلّ يقاوم، ويرفض الضمّ، ويتشبث بالهوية، ويواصل الإضراب؛ ليس دون خلق الإحساس العارم بالمرارة المزدوجة: عند السوريين، في الداخل، إذْ لا يملكون سوى التضامن مع أشقائهم في الجولان، فضلاً عن المقارنة بين فاشية محلية سورية، وأخرى محتلة إسرائيلية؛ وعند الجولانيين، إذْ يواصلون الانتماء إلى وطن ينزف على يد الطغاة، ولكنه موئل أوّل، ومآل أخير.
هي مصادفة صرفة، بالطبع، أن تترافق الذكرى الثلاثون للإضراب الوطني الكبير في الجولان المحتل، مع القصف الوحشي الذي تتعرّض له أحياء حمص، وأن تُستخدم ضدّ أبنائها أسلحة مدمّرة تحاكي تلك التي استخدمها الإسرائيليون ضدّ رام الله، وغزّة، وقانا، وبيروت... حتى إذا كان بلد المنشأ مختلفاً، بين أمريكا وروسيا. لكنها ليست البتة مصادفة خالية من قرائن المنطق، لأنّ ذلك النظام الذي دكّ مدينة حماة سنة 1982، عام الإضراب الجولاني المجيد، هو ذاته النظام الذي يدكّ حمص اليوم، في الذكرى الثلاثين للإضراب؛ ولعلّه أشدّ همجية أيضاً: بين الأسد الأب، الذي كان يقاتل لاجتثاث مجموعات مسلحة محدودة العدد والعدّة، بغية تأديب المجتمع بأسره؛ والأسد الوريث، الذي يقاتل الغالبية الساحقة من الشعب الأعزل، بما ملك نظامه من آلة بطش أمنية وعسكرية ومالية، وبما يستعين من مقاتلي'الحرس الثوري' الإيراني وميليشيات 'حزب الله'.
وضمن سياق كهذا يُفهم البيان الذي صدر عن 'الحراك الوطني الديمقراطي' في الجولان، بمناسبة الذكرى الثلاثين للإضراب ('انتفاضة شباط'، كما اختاروا تسميتها، بحقّ)، وخاصة هذه الفقرة التي تقول: 'اليوم، بعد ثلاثين عاماً، تعيد ثورة الكرامة والحرية التأكيد على وطنيتنا السورية، وتجعلها أوسع أفقاً وأكثر جذرية؛ تعيد وصل ما انقطع، عمداً ومكراً، بين سوريي الجولان وباقي أبناء سورية.
هنا يتلاقى، من جديد، جوهر انتفاضة الجولانيين لكرامتهم وحريتهم بروح الثورة السورية ضد امتهان الإنسان وإذلاله، ضد التسلط والفساد، ضد تحويل المواطنين إلى رعايا يمجّدون الحاكم ويسبّحون بعطاياه ومكرماته ويتمرغون عند عتباته؛ ضد تمزيق نسيج المجتمع السوري وتحويل الفسيفساء الجميل لمكوناته إلى شظايا لا تلتحم، ضد اختزال الوطن في شخصية الحاكم الطاغية ووريثه من بعده'.
وقبل أشهر قليلة كان الوريث يمتدح مفهوم 'المقاومة'، بوصفه أوسع نطاقاً من مصطلح 'الممانعة' مثلاً، فيقول إنّ 'جوهر السلام ليس فقط مفاوضات بل هو مقاومة أيضاً، ومن الخطأ أن نعتقد أن السلام يأتي من خلال التفاوض بل يأتي من خلال المقاومة. لذلك يجب علينا دعم المقاومة لأننا بذلك ندعم عملية السلام، فالمقاومة والتفاوض هما محور واحد وكلاهما يهدف لاستعادة الحقوق المشروعة التي لن نتنازل عنها'. ولأنه اعتاد على التفلسف، دونما فلسفة فعلية من أي نوع، فقد أكمل الأسد: 'إننا بدأنا الآن ببناء شرق أوسط جديد جوهره المقاومة (...) المقاومة بمعناها الثقافي والعسكري وبكل معنى آخر هي جوهر سياساتنا في سورية اليوم وفي الماضي، وستبقى في المستقبل وهي جوهر وجودنا'.
كذلك شدّد الأسد على ترابط العلاقة بين السلام والمقاومة، وأعطى الأخيرة بعداً عربياً موسعاً: 'مقاومة الاحتلال هي واجب وطني، ودعمها من قبلنا هو واجب أخلاقي وشرعي، ومساندتها شرف نفاخر به. وهذا لا ينفي أبداً رغبتنا الثابتة بتحقيق السلام العادل والشامل على أساس عودة الأراضي المحتلة وفي مقدمتها الجولان السوري المحتل. ولكن فشل المفاوضات في إعادة الحقوق كاملة يعني بشكل آلي حلول المقاومة كحلّ بديل'.
فأين المقاومة، إذاً؟ مؤجلة، لأنّ 'تحرير الجولان بأيدينا وبعزيمتنا. لكنّ هذه العزيمة بالنسبة لنا كدولة تأخذ الاتجاه السياسي وتأخذ الاتجاه العسكري. كما قلت بالعودة لموضوع المقاومة هو قرار شعبي لا تستطيع أن تقول دولة ما: نعم، سنذهب باتجاه المقاومة. هذا كلام غير منطقي. الشعب يتحرك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما يقرر هذا الشيء'.
وللوهلة الأولى، سوف يظنّ المنصت إلى هذه الأقوال أنّ أراضي الجولان السوري المحتلّ هي حاضنة المقاومة الأولى والأهمّ في هذا الخيار الوجودي المقاوِم، وأنّ عمليات المقاومين في مسعدة وتلّ الفرس والخشنية وكفر نفاخ وتلّ أبو الندى، وغيرها من بطاح الجولان المحتلة، قائمة على قدم وساق، بدعم مباشر وصريح من الجيش السوري. أو: أنّ الشعب السوري عازف عن المقاومة، مستسلم، خامل، كسول، عديم الوطنية! ذاك مُنصت جاهل، بالطبع، أو متجاهل متعام مرتزق بوق... لأنّ جوهر المسألة هي أنّ النظام السوري ـ الأسد الأب والأسد الابن، مثل أنظمة حزب البعث التي سبقته، منذ احتلال الجولان سنة 1967 ـ يطري المقاومة في كلّ مكان، ويرحّب بها على أية أرض، ما خلا الهضبة.
هنا يسود صمت الحملان، وفي حمص وحماة وجبل الزاوية وإدلب والزبداني... يتعالى عواء الذئاب!