مسألة التدخّل أيضاً وأيضاً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حازم صاغيّة
قبل أن يعلن "المجلس الوطنيّ السوريّ" موقفه الصريح والقاطع والنهائيّ من التدخّل الخارجيّ لإنقاذ المدنيّين، عرّضه خصومه لموجة بعد موجة من الهجمات والشتائم. وهذه الأخيرة، فضلاً عن خلطها بين كلّ أنواع "التدخّل" من غير تمييز بين ممرّات إنسانيّة وملاذ آمن وعمل عسكريّ بريّ أو جويّ، كانت تستعجل موافقة "المجلس" على التدخّل كما لو أنّها لا تريد منه إلاّ ذلك. فمثل هذا الموقف "المدان" و"المشبوه" يحرّر الكثيرين من حَرجهم الناجم عن تأييد الثورة السوريّة على مضض فيما قلوبهم مع يتامى "الممانعة".
والحال أنّ التدخّل، حتّى بأبسط معانيه وأقلّها عسكريّة وتدخّليّة، خيار سيّء لا يعتمده إلاّ من تنسدّ في وجهه الخيارات. فهو يربط سوريّة بصراعات أكبر منها، ويوجِد فيها مواقع تأثير لغيرها، وربّما عمل لاحقاً على تعقيد التوصّل إلى حلّ للأزمة السوريّة.
هكذا لا يُقدم طالب التدخّل على طلبه إلاّ مكسوراً ومضطرّاً، لكنّ الموت المتمادي يبقى أشدّ مدعاة للاضطرار وللانكسار. فإذا قيل إنّ حلاًّ سياسيّاً ما كان في وسعه أن يوفّر "الطريق الثالث" بين التدخّل والموت، فقد برهنت الأشهر القليلة الماضية عكس ذلك تماماً: فهي دلّت على أنّ "السياسة"، على تعدّد مصادرها وفاعليها، وفّرت للنظام مجالاً أرحب لإحداث مزيد من الموت، وذلك بشهادة أرقام الضحايا. كما دلّ الحضور العسكريّ الروسيّ والإيرانيّ، على رغم استعراضيّة الأخير، أنّ تلك "السياسة" لن تكون إلاّ ذريعة لامتلاك أسباب إضافيّة من أجل إسقاط قتلى إضافيّين.
لقد كانت "نقابة التضامن" البولنديّة توصف في الإعلام الرسميّ البولنديّ بمثل ما يوصف به "المجلس الوطنيّ السوريّ" في الإعلام الرسميّ السوريّ. فهي عميلة ومندسّة باعت نفسها للأجنبيّ وعملت لخدمته ضدّ الوطن والاشتراكيّة. إلاّ أنّ احتدام الصراع وآفاقه الملبّدة بالانفجار حملت الجنرال جاروزلسكي على عقد "الطاولة المستديرة" التي جمعته إلى "التضامن" ومهّدت لإجراء انتخابات عامّة هُزم فيها جاروزلسكي وحزبه هزيمة منكرة. يومها لم يتحدّث حكّام بولندا عن تشكيل لجان للدراسة أو عن إجراء استفتاء تشرف عليه المجموعة الحاكمة إيّاها حول دستور وضعته هي بنفسها. لقد اختار حكّام بولندا السياسة فعلاً، واختاروها من دون لفّ ودوران، لتكون حائلاً يقف دون العنف ودون التدخّل.
عندنا، في العالم العربيّ، يُطالَب المعارضون بألاّ يكترثوا بموت شعبهم وبأن يركّزوا على رفض التدخّل لأنّه قد يكون غربيّاً! وهذه شهادة بليغة على منح الأولويّة للولاءات المعتقديّة على الحياة والموت نفسهما. إلاّ أنّها أيضاً شهادة على الإنكار العظيم للواقع المحليّ حيث تحول التوازنات القائمة دون حسم أيّ صراع ناشئ. فمجرّد الاعتراف بهذه الحقيقة اعتراف بأنّ التناقضات الذاتيّة المقيمة في تربتنا، وما يعزّزها من قسوة وحشيّة للنظام، هي، وليس الخارج، مسألة المسائل. والشيء نفسه ينطبق على الإقرار بضآلة التأثير العربيّ حين تندفع الأمور إلى المستوى الذي دفعها إليه النظام السوريّ. فهذه حقيقة أخرى جارحة للذات الوطنيّة المفترضة!
وفي نهاية المطاف لا يبقى إلاّ القتل المتواصل للسوريّين والتدمير المتعاظم لمدنهم وبلداتهم. وهو كلّه يمكن احتماله ولا يتطلّب إلاّ إدانة من هنا وشجباً من هناك. أمّا التدخّل، في تونس أو غير تونس، لوقف هذه الطاحونة الدمويّة... فمعاذ الله!