معايير نجاح الثورات العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
خالد الحروب
لا تكتمل الصورة في تقييم أوضاع بلدان الحراك العربي إلا إذا نظرنا إليها من المنظور طويل الأمد ووضعناها في سياق التحولات الكبرى التاريخية التي تنخرط فيها البلدان والمجتمعات وتنتقل بها وعبرها من مرحلة إلى أخرى. في مثل هذه التحولات الجذرية تحتاج المجتمعات إلى مدى زمني طويل كي تلمس آثار التغيير الكلي على مستوى الأفراد. وإذا بقيت النظرة محصورة في اللحظة الآنية المليئة بمشكلات ما بعد إسقاط الأنظمة الفاسدة فإنها توفر فهماً قاصراً ومحدوداً. والإرث الذي يتركه الاستبداد من الفساد يحتاج إلى فترات طويلة لتجاوزه.
وبالمجمل العام يمكن القول إن الثورة، أي ثورة، عندما تقوم ضد وضع فاسد ومدمر وتنجح في تغييره فإنها تحقق على الفور النصف الأول من الإنجاز، أو لنقل نصف النجاح المأمول من قبل الشعب الذي ناصر الثورة، وهو التخلص من النظام الفاسد وهدمه في البلد المعني. ولكن بطبيعة الحال يتبقى النصف الثاني من النجاح وهو بناء نظام بديل فعال وصحي وأفضل من النظام البائد، ويقوم على القيم التي كان ذلك النظام يغيبها في الماضي مثل الحرية والعدالة والكرامة والتعددية. وهذا النصف الثاني هو التحدي والنجاح الحقيقي. ولتقييم مسيرة التحولات قيد السيرورة في بلدان الثورات العربية يمكن التفكير في بعض المعايير القياسية التي يتم الحكم من خلالها على أداء الثورة أو نظام ما بعد الثورة على المدى الطويل وتتضمن التالي:
المعيار الأول هو بناء مجتمعات قائمة على استقرار الحرية لا استقرار الاستبداد، وربما كان هذا المعيار هو الأهم والمؤسس لبقية المعايير الذي يشكل المؤشر على أن بلدان ما بعد الثورة اختطت مساراً مختلفاً عما كانت عليه الأمور قبلها هو إنجاز الاستقرار مصحوباً بالحرية والكرامة للشعب. وهنا وفي الاستقرار المبني على الحرية تتصارع القوى المتنافسة داخل المجتمع بعنف شديد في المرحلة الأولى، قد يتخذ أشكالًا دموية، ثم يخف تدريجيّاً إلى أن تكتشف هذه القوى أنه لا حل أمامها سوى التعايش فيما بينها، ولا مناص من الوصول إلى معادلات تساومية وتنازلات متبادلة.
والمعيار الثاني هو المحافظة على الوحدة الترابية للبلدان المعنية ودحر مخاطر التقسيم، وتلاحظ الأهمية الفائقة لهذا المعيار في لحظة ما بعد الثورة بسبب بروز مخاطر تجزئة حقيقية في بعض الحالات (خاصة ليبيا، واليمن، وسوريا، وإلى حد أقل بكثير في مصر). والتحدي الكبير في مواجهة هذه المخاطر يكمن في احتوائها بطريقة سلمية وطوعية وليس عن طريق استخدام القوة، لأن مثل هذا الاستخدام سيعيد إنتاج جزء من المنظومة الفكرية والسياسية والممارساتية للأنظمة السابقة التي كانت تعتمد على البطش في فرض إرادتها. لقد تبدى عشية الثورات العربية وبعد عقود طويلة من سيطرة الأنظمة المستبدة على مقدرات البلدان والزعم بإنشاء دول حديثة عمق الفشل المذهل الذي راكمته تلك الأنظمة في طول وعرض هذه المنطقة من العالم. وكل مشاريع التحديث الظاهري لم تنجح في خلق مجتمعات وبلدان قائمة على مبدأ المواطنة الدستورية والمساواة الكاملة أمام القانون. وكل ما كان ولا يزال على السطح هو مجرد قشرة ظاهرية من التحديث الهش الذي يترعرع العفن في قلبه، حيث المحافظة على البنيات التقليدية والقبلية والطائفية بكل تنويعات ولاءاتها وتشظياتها. وإذا ما تعرضت هذه القشرة الهشة للتهديد والهدم فإن كل بنية ما قبل الدولة تكون هي الثابت شبه الوحيد، وتظهر على السطح عارية بكل بشاعاتها. ولئن كانت هناك جرائم حرب يُحاكم بسببها من يقترفون جرائم إبادة بحق شعوبهم فإن جريمة إضاعة عقود زمنية طويلة من عمر الشعوب ربما لا تقل فداحة، ويستحق الزعماء والأنظمة التي تقترفها المحاكمة.
والمعيار الثالث هو صياغة نظام سياسي ودستوري قائم على المواطنة والدولة المدنية. وهنا يمكن القول إن أهمية الثورة الموجهة ضد الطغيان والديكتاتورية تكمن في موضعتها الجماعة البشرية المعينة وكيانها السياسي في مسار التسيس الطبيعي الميّال إلى الحرية واحترام الأفراد والإقرار بالتعدديات التي تنطوي عليها تلك الجماعة والاعتراف بها على قاعدة المساواة التامة. ويعني ذلك في ما يعنيه صوغ دستور جديد يكرس مفهوم المواطنة على حساب كل الولاءات الأخرى، القبلية والطائفية والدينية والجهوية، وترجمة ذلك على شكل قوانين وتشريعات وقضاء مستقل يضمن خضوع الجميع لحكم القانون. ثم رعاية نظام سياسي يقوم على الديمقراطية والتعددية والتداول سلميّاً على السلطة. وفي العصر الحديث والمرحلة التي وصلت إليها البشرية ليس هناك شكل للنظام السياسي يضمن الحقوق الدنيا للأفراد ويخلق فضاءً للمساواة والحرية والإبداع ويدافع عن كرامة الناس الجماعية والفردية إلا النظام الديمقراطي التعددي. وكلما كان المكون الليبرالي في هذا النظام متوافراً وكبيراً وموجهاً كلما تحققت تلك القيم بشكل أسرع وأكثر رسوخاً. وتحتاج هذه النقطة إلى توقف خاص بها، أي علاقة الديمقراطية بالليبرالية.
والمعيار الرابع هو موضعة البلاد على مسار التنمية المُستدامة (بما في ذلك إنعاش الاقتصاد، ورفع معدلات التشغيل بشكل أساسي). وهذا المعيار لا يقل عما سبق أهمية ويتمثل في إطلاق مشروع تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقي على مستوى الأوطان يعمل على استغلال الثروات الوطنية والطاقات البشرية وفق رؤية مستقبلية شفافة وفاعلة، ويقطع مع التكلس والفشل السابق. وهذا المعيار هو في واقع الأمر الأكثر قرباً من الأفراد الذين يهمهم تلمس اختلاف في مستوى المعيشة والكرامة والحصول على العمل، بخلاف ما كان عليه الوضع أيام الأنظمة الفاسدة السابقة. والفساد الذي كان يعشعش في بنية تلك الأنظمة كان يحصر مخرجات الاقتصاد الوطني في يد طبقة ضيقة من المنتفعين والمستفيدين الذين غالباً ما كانوا يشكلون البطانة التي تسند نظام الحكم وتتبادل معه المنافع. والمعضلة الكبرى التي تواجه بلدان ما بعد الثورات تكمن في أن إنجاز أي تنمية حقيقية ومُستدامة يكاد يأتي الأخير على أجندة ما يُفترض إنجازه. إذ لا يمكن من ناحية عملية إنجاح أي اقتصاد محلي بشكل يفترق فيه من ناحية توزيع العوائد على المجموع العام من دون أن يسبق ذلك تحقيق استقرار سياسي وأمني، وخلق بيئة مريحة ولو نسبيّاً.
والمعيار الخامس تعزيز السيادة الوطنية وبناء علاقات خارجية غير قائمة على التبعية. على مستوى خارجي هناك معيار أساسي يمكن الاعتماد عليه في الحكم بنجاح أو عدم نجاح الحراك العربي وثوراته وهو تحقيق استقلال وسيادة القرار الوطني، والانفكاك من نمط التبعية للخارج، كما عهدناه لعقود طويلة في المنطقة. ويمتاز هذا المعيار بحساسية بالغة في أوساط الرأي العام في المنطقة ووسط شعوبها، نظراً لما عانته هذه الشعوب من تحالف طويل بين الغرب وبعض الأنظمة المُستبدة تم على حساب مصالح تلك الشعوب وأطال من معاناتها. وعلى بلدان ما بعد الثورات العربية أن تصوغ علاقاتها مع الخارج، والغرب على وجه التحديد، على قاعدة الندية والمصالح المشتركة وليس التبعية. وفي الوقت نفسه لا أحد يُطالبها بإقامة متاريس العداء مع الخارج، ومرة أخرى الغرب على وجه الخصوص، ذلك أن العداء ليس مطلوباً لذاته، بل المطلوب هو الدفاع عن مصالح البلدان وشعوبها.