النهضة تحسم الجدل التونسي حول الدستور
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
توفيق المديني
سوف يتذكر تاريخ تونس ما بعد رحيل الديكتاتور زين العابدين بن علي يوم الإثنين 26 مارس 2012، باعتباره يوماً تاريخياً مُهِماً. ففي ذلك اليوم، قالت حركة النهضة الإسلامية التي تهيمن على الحياة السياسية في تونس، للمجموعات السلفية المتطرفة، لا لتنصيص الشريعة الإسلامية في الدستور التونسي الجديد، مقدمة بذلك رفضاً واضحاً وقاطعاً. ويعتبر هذا الموقف التاريخي الذي اتخذته حركة النهضة الإسلامية خطوة سياسية متقدمة عكست نوعاً من البراغماتية في التعاطي مع الملفات الشائكة، في هذه المرحلة الحرجة والدقيقة التي تمر بها تونس، حيث أسهم هذا الموقف في نزع فتيل التوتر، والاحتقان الذي بلغ حدّ تهديد وحدة وتماسك النسيج الاجتماعي.
وبهذا الموقف المسؤول أنجزت حركة النهضة عملها الأول كحزب حكومة. فقد فضلت حركة النهضة الواقعية والبراغماتية على المغالاة في الأيديولوجيا، وتصرفت كقوة سياسية مسؤولة، وخاطرت بعملية المواجهة مع الجناح المتشدّد في داخلها، ومع الجماعات السلفية المتطرفة الأخرى. وفضلت أيضاً التجريبية في إدارة الدولة على الطُهْرِيَة الطائفية.
وإذا حافظت حركة النهضة الإسلامية على هذا النهج، نهج بناء الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية التعددية،حيث يسود فيها الوفاق التاريخي بين العلمانية و"الإسلام الليبرالي"، فإن الثورة التونسية باعتبارها القاطرة التي تَجُرُّ ربيع الثورات العربية، يمكن أن تكون نموذجاً يحتذى به عربياً وإسلامياً.
فبعد استقلال تونس في عا1956، أقرّ أول رئيس لهذه الدولة الصغيرة في منطقة المغرب العربي، الحبيب بورقيبة، في عام 1959، دستوراً حديثاً يعتبر من أكثر الدساتير تقدمية في العالم العربي والإسلامي. فقد زوّد التونسيين بمدونة الأحوال الشخصية التي منحت المرأة التونسية، حقوقاً لا مثيل لها في المنطقة. وفي الوقت الذي كانت فيه معظم الدساتير في البلدان العربية والإسلامية، تَنُصُّ صراحة على أن الشريعة الإسلامية تعتبر مصدراً أساسياً للتشريع، تفرّد التونسي بعدم ذكر الشريعة الإسلامية كمصدر للقانون والدستور التونسي، مكتفياً بالمادة الأولى التي نصت على أن دين الدولة هو الإسلام.
أثار تراجع حركة النهضة الإسلامية عن التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي ووحيد للتشريع في نص الدستور الجديد، الذي يعكف على إعداده المجلس التأسيسي رُدُودَ أفعال متباينة لدى الفاعلين السياسيين والخبراء بين مُرّحب ومُتَوّجس من مدى التزام الحركة بقرارها وبتعهداتها بصفة عامة.
فقد رحّبت عدة هيئات سياسية ذات اتجاهات سياسية مختلفة منها أحزاب المعارضة بموقف حركة النهضة ٬ باعتباره "سيحافظ على الوفاق السياسي ويجنب التطرف الديني في البلاد". وفي هذا السياق ٬ قال رئيس كتلة حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات٬ المولدي الرياحي ٬ الذي يشارك حزبه في الائتلاف الحاكم ٬ في تصريح أوردته الصحف التونسية الصادرة يوم 27مارس 2012، إن الأحزاب السياسية "يجب ألا تكون تحت تأثير تيارات متشددة (...) بل إن تحصن المجتمع وتبحث عما يقيه ويعد للمرحلة القادمة"٬ معتبراً أن التيارات السلفية وغيرها "لا تمثل إلا أقلية صغيرة جدّا داخل المجتمع التونسي".
واعتبرت الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي المعارض، والعضو في المجلس التأسيسي٬ مية الجريبي، في تصريح أوردته وكالة الأنباء التونسية٬ أن الأحداث أكدت أن الجدل حول الشريعة الإسلامية٬ الذي شهدته تونس خلال الأسابيع الأخيرة "يفتح الباب لمتاهات نحن في غنى عنها ويمكن أن تقود إلى العنف ونحو تخوفات حقيقية"٬ مشيرة إلى أن الدفاع عن "مدنية الدولة" في الدستور لا يعني عدم الاستلهام من الإسلام والقيم الإسلامية.
أما الزعيم التاريخي للحزب الديمقراطي التقدمي، الأستاذ أحمد نجيب الشابي ٬ فقد قال من جهته إنه "يسجل بارتياح هذا القرار الصادر عن حزب النهضة"٬ مشيراً إلى أن الإجماع الوطني حول الدستور يُجّنب تونس "تجاذبات ليست في حاجة إليها ويمكن من تخفيض درجة التوتر السياسي".
وفي السياق عينه، اعتبر المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي الذي ينتمي إلى تيار "الإسلاميين التقدميين" المُنْشَقِ عن حركة النهضة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، تراجع حركة النهضة الإسلامية بأن "الكفة مالت في النهاية لصالح الوعي بطبيعة المرحلة وترجيح منطق المصالح على خطاب الأيديولوجيا" مضيفاً أن "وجهة نظر رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي لا يزال يتمتع بنفوذ قوي داخل أنصاره كانت حاسمة في ترجيح الكفة" لدعاة الاكتفاء بالفصل الأول من دستور 1959 الذي وضعه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.
وبالمقابل، وصف الدكتور محمد الهاشمي الحامدي رئيس تيار "العريضة الشعبية للعدالة والحرية والتنمية"٬ وهو فيصل ذو اتجاه إسلامي معارض داخل المجلس التأسيسي ٬ موقف حركة النهضة من موقع الإسلام والشريعة في الدستور الجديد بأنه "خيانة للتونسيين الذين صوتوا لها ولمبادئ الحركة الإسلامية المعاصرة في تونس".
يشكل موقف حركة النهضة الأخير، تحولاً في مسار الإسلاميين بتونس، فالنهضة رغم أنها تقود الحكومة التونسية المؤقتة، وتهيمن على المجلس التأسيسي بنحو 89 نائباً من أصل 217، فإن أحداث الصراعات الأخيرة بين المجتمع المدني الذي ظهر كقوة كبيرة تقف ندّاً أمام الدولة وبين الجماعات السلفية المُتشدّدة التي تمارس العنف ضد المجتمع، بيّنت أن حركة النهضة وجدت نفسها أقلية على أرض الواقع في مواجهة أكثرية تريد أن تتقدم بتونس خطوات جادة على طريق بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
وتعاني حركة النهضة من انقسامات داخلية في صفوفها بين تيارين بارزين، ويمسك الشيخ راشد الغنوشي العصا من النصف، بهدف حفظ التوازنات الداخلية للحركة. ويقود التيار السلفي المُتشدّد داخل حركة النهضة الصادق شورو أساساً، وهو من دعا من داخل المجلس التأسيسي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وتربطه علاقات جدّا وثيقة مع قيادات الجماعات السلفية الجهادية حتى أنه يحضر مؤتمراتها ونشاطاتها. وتصطف وراء الصادق شورو القيادات التي عانت محنة السجون وأصبحت حاملة لما يسمى بـ"الثقافة السجنية" المُتشدّدة على شاكلة الجماعات الإسلامية المصرية.
أما التيار الثاني، فهو تيار "معتدل" تقوده كوادر شابة عاشت أكثر من 15 سنة في المنافي متنقلة بين لندن وباريس واكتشفت خلال تلك السنوات أن نجاح حركة النهضة يبقى رهين "انفتاحها الديمقراطي وتسامحها وعقلانية سياساتها وفكرها ومدى نجاحها في التوفيق بين مرجعية الحركة العقائدية وما تستدعيه خصوصية المجتمع التونسي العلماني من تنازلات".
وقد اعترفت مصادر قيادية في حركة النهضة نفسها بهذا الانقسام الذي بدأ يشق صفوفها، لاسيَّما بعد أن فازت في انتخابات 23 أكتوبر2011 وشكلت أول حكومة طعمتها بتحالفها مع حزبين ليبراليين هما المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يتزعمه المنصف المرزوقي والتكتل من أجل العمل والحريات الذي يتزعمه مصطفى بن جعفر.
وكما هو الحال في الانتخابات الأخيرة حيث ضخّم الإعلام المحلي والعربي والدولي فوز الإسلاميين في تونس، لكن في واقع الجسم الانتخابي الحقيقي، لا تمثل حركة النهضة سوى 20في المائة أو أزيد من ذلك بقليل، هذا هو حجمها الحقيقي. أما باقي المجتمع التونسي، فهو ليس مع النهضة، وهو متمسك بتعاليم الإسلام المدنية المتسامحة، ويرفض الإسلام الأصولي العُنْفِي، ومُتشَّبِثٌ بمقومات الحداثة وبناء الدولة المدنية. وفي مثل هذا الوضع وجدت حركة النهضة نفسها وحيدة، باستثناء تحالفها مع الجماعات السلفية المتشددةّ في مواجهة أكثرية المجتمع. وهذا ما جعل الشيخ راشد الغنوشي يقول: " لن نفرض الإسلام على المجتمع التونسي"، إنه الانصياع المُرّ لمنطق، ورغبة الأكثرية التي تريد أن تعيش في كنف المكتسبات التاريخية التي حققتها تونس في ظل الجمهورية الأولى، مع إضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسسات الجمهورية الثانية.
وأثبتت تجربة الحكم القصيرة بعد تشكيل حكومة الترويكا برئاسة الوزير الأول السيد حمادي الجبالي، أن حركة النهضة لا تزال تتصرف كحزب معارضة لا كحزب سلطة، عليه أن يقدم حلولاً واقعية للتحدّيات التي تواجهها تونس بعد إنجاز ثورتها. فوجدت نفسها عاجزة عن إدارة مؤسسات دولة علمانية عريقة أولاً، وهو الأهم عاجزة عن تقديم حلول ناجعة لمطالب التونسيين الذين سئموا الوعود، ثانياً.
هكذا وجدت حركة النهضة الإسلامية نفسها في تونس العلمانية محاصرة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ولم يبق لها سوى "مربع النفعية والبراغماتية لتنقذ ما يمكن إنقاذه".