«الدولة الخرطوش»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مأمون فندي
بندقية الصيد البلجيكية، أو الخرطوش، التي لها فوهتان أو "روحان" ينطلق منهما البارود، هي الصورة التي أبني عليها فكرتي عن "الدولة الخرطوش"، ومدى قدرة الثورة على إحداث تغيير في هذا النوع الجديد من الدول.
في عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، كانت تُحكم مصر عن طريق ديكتاتورية واحدة أساسها حكم العسكر منذ عام 1952 حتى يوم تنحي مبارك، وبهذا كانت ديكتاتورية مصر كالبندقية ذات الماسورة الواحدة، أما اليوم وبعد سيطرة التيار الديني على البرلمان المصري فلدينا ديكتاتورية أخرى هي ديكتاتورية الحركات الدينية التي تتدخل في دقائق الأمور الاجتماعية.
ولو كنا أمام عملية إحلال؛ أي إحلال التيار الديني بديكتاتوريتيه محل الديكتاتورية العسكرية، لقلنا إننا استبدلنا بماسورة البندقية ماسورة أخرى، ولكننا اليوم في مصر لدينا العسكر في الحكم ولدينا التيار الديني في الشارع والبرلمان، أي لدينا ديكتاتورية بروحين، مثلها مثل بندقية الصيد ذات الماسورتين. ديكتاتوريتان في وقت واحد، يتمنى المصريون أن تزيل إحداهما الأخرى حال حدوث مواجهة بين "الإخوان" و"العسكر".
مصر اليوم هي في مرحلة "شد الحبل"، أي أن الديكتاتوريتين باقيتان. وأن التحدي الذي كان يواجه القوى التي تنشد الحرية كقيمة كبرى، والتي أسقطت مبارك، أو أسقطت ديكتاتورية واحدة في عام 2011، مطلوب منها اليوم إسقاط ديكتاتوريتين، أو دخول حرب على جبهتين في ذات الوقت، وقضية دخول حربين في وقت واحد التي كان يتبناها وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، فشلت أكبر الدول العظمى في تحقيقها. ومن هنا نسأل: هل الثورة جعلتنا أكثر قربا من القضاء على الديكتاتورية، أم أنها جعلت الحرية هدفا صعب المنال بعد أن استبدلنا بالديكتاتورية العسكرية الواحدة، التي لم يكن لها جذور في المجتمع، ديكتاتوريتين، إحداهما متجذرة في الوعي الاجتماعي المصري، وهي ديكتاتورية التدين، حتى لو كان التدين مظهريا؟ فكيف لمن فشل في القضاء على ديكتاتورية واحدة أن يواجه ديكتاتوريتين في وقت واحد؟
لافت للنظر لمن شاهد مليونية الجمعة الفائت، التي ملأت ميدان التحرير، أن شرعية النظام بمجمله، وبعد مرور أكثر من عام على الثورة، محل شك كبير، فالبرلمان الذي من المفترض أن الناس انتخبوه لم ينجح في أن يلغي شرعية الميدان، بل إن أعضاء مجلس الشعب أنفسهم راحوا يبحثون عن شرعيتهم في الميدان، وكأن الانتخابات لم تحدث، أو أنهم في بداية حملة انتخابية جديدة من أجل كسب التأييد والشرعية. هذا المشهد يوحي بأن أحد الأركان الرئيسية لبناء شرعية في أي نظام، والمتمثلة في البرلمان، فشل في أن يحقق الهدف المرجو.
الملاحظة الثانية التي تستحق اهتماما كبيرا هي الانتخابات الرئاسية التي تهدف إلى بناء عمود جديد يحمل شرعية النظام المصري. بداية، هناك حوار طويل عريض في مصر حول وظيفة هذا الرئيس وصلاحياته في غياب الدستور، وأن الرئيس المقبل ستكون له ذات الصلاحيات الواسعة للرئيس السابق، هذا على المستوى النظري.. ولكن إذا نظرنا إلى الأمور في الواقع وعلى الأرض، فربما نكتشف أن رئيس مصر في الحقيقة لم يكن سوى شخص بلا صلاحيات، وخذ مبارك مثالا على ذلك كي تتضح الرؤية.
فمثلا.. ظن الشعب المصري الذي قام بالثورة أن مبارك هو رأس النظام، وأنه في 11 فبراير (شباط) استطاع أن يقطع رأس النظام وما هي إلا مسألة وقت حتى يتحلل الجسد الديكتاتوري بعد قطع رأسه ويزول ونبني نظاما جديدا أساسه الحرية. ومر أكثر من عام على قطع رأس النظام، ولكن الديكتاتورية بقيت أقوى مما كانت، وأن عدد القتلى في فترة حكم مبارك، ربما كلها، لم يساو عدد القتلى في ظل النظام الجديد، الذي قارب الـ2000 مصري حتى الآن. فإذا كان الأمر كذلك؛ فماذا كانت أهمية الرئيس في ديكتاتورية العسكر في العهد السابق؟
لو كان لدي تشبيه هنا؛ فالرئيس مبارك لم يكن رأس النظام، بل كان كما الزائدة الدودية في جسد النظام الديكتاتوري، التهبت الزائدة في 25 يناير (كانون الثاني) وتم استئصالها في 11 فبراير، وما هي إلا أيام قضاها النظام الديكتاتوري في المستشفى حتى تعافى من عملية الزائدة تماما وعاد أقوى مما كان من حيث شراسة الأداء. فها هو البرلمان قد فشل في استجواب وزير، وفشل أيضا في إقالة حكومة كمال الجنزوري. إذن العسكر أكثر قوة مما كانوا. فإذا كان الرئيس هو مجرد زائدة دودية في النظام العسكري، وسيكون أيضا كذلك لو كان "إخوانيا" عندما يأخذ أوامره من المرشد، كما يأخذ أحمدي نجاد أوامره من المرشد في الصيغة الإيرانية، فنحن أمام "رئيس طرطور"، كما تقول العامية المصرية. فإذا كان هذا هو الرئيس ووظيفته في ظل العسكر أو في ظل "الإخوان" ومرشدهم، فلماذا هذا السباق المحموم على رئاسة مصر؟
التحدي الأكبر للثورة المصرية اليوم يتمثل في ثلاث قضايا كبرى؛ أولها تخص مدى معرفة الثوار بالنظام الذي قاموا بثورة ضده، فرغم إيمان الجميع، وبحسن نية، في 11 فبراير 2011 أن الشعب قد نال حريته أخيرا وأن صباح الحرية قد انبلج من عتمة الديكتاتورية، فإن المفاجأة الكبرى كانت في أنهم استطاعوا عزل الديكتاتور وبقيت الديكتاتورية. أما القضية الثانية فهي أن شرعية النظام في مصر ليست في المؤسسات المدنية المتمثلة في البرلمان والرئيس والدستور، بدليل وجود برلمان بلا شرعية. والقضية الثالثة هي إضافة ديكتاتورية الدين، ولو كان تدينا مسيسا ومزيفا، إلى الديكتاتورية العسكرية. أي أن الثورة القادمة ستواجه دولة ديكتاتورية ليست بروح واحدة وإنما دولة كبندقية الصيد البلجيكية، بروحين أو ماسورتين؛ ماسورة الديكتاتورية العسكرية وماسورة الديكتاتورية الدينية. ماسورتان تطلقان ذات البارود وذات الدخان. ديكتاتورية عسكرية تخوّن المخالفين في الرأي، وأخرى دينية تكفّر مَن خالفها الرأي، فها نحن أمام التخوين كأداة رعب كان يستخدمها مبارك ضد أعدائه فقط، نحن أيضا أمام تخوين وتكفير للثورة في وقت واحد.
إذا كانت تلك هي إنجازات الثورة أمام ديكتاتورية بروح واحدة، فترى أي ثورة سنرى في مواجهة ديكتاتورية بروحين؟ وترى أي إنجاز سيتحقق بعد أن وجدت الثورة نفسها في بطن الحوت حيث الظلمات بعضها فوق بعض؟ تحدث المصريون كثيرا عن استخدام الخرطوش من قبل وزارة الداخلية لضرب المتظاهرين، ولكن التحدي الأكبر هو فهمهم "الدولة الخرطوش"، الدولة ذات الديكتاتوريتين، أو "الديكتاتورية أُم روحين".