فرانسوا هولاند… المُرشّح المبتسم دوماً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الكويت
في أوروبا العيون كلها شاخصة نحو فرانسوا هولاند، المرشح الاشتراكي الذي قد يصبح الرئيس الفرنسي التالي بعد غد. ازداد هذا الرجل التكنوقراطي المتحفظ ثقة خلال الحملة الانتخابية وبات يتصرف كرئيس حقيقي للجمهورية. وقد عوض عن عدم إتقانه فن الخطاب بإعرابه عن تعاطف أصيل مع الشعب. لكن حتى أصدقاؤه يعتبرونه غامضاً جداً. ماثيو فان رور من "شبيغل" تحدث عنه.
ترجل هولاند بعد يوم من انتصاره من طائرة خاصة حطت نحو الظهيرة في مطار كمبر، مدينة صغيرة في بريتاني. فيما سار قرب جهاز نقل الحقائب ليبلغ المطار، بدا كما لو أنه يشع ثقة ولكن ظهرت عليه أيضاً علامات التعب والإرهاق.
في وقت متأخر من الليلة السابقة، سافر بالطائرة من باريس إلى تول، منطقته الانتخابية في جنوب غرب فرنسا، وهناك احتفل في مقر الحزب الاشتراكي بانتصاره في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية حتى ساعات الفجر. كانت معنوياته عالية جداً وفرحه عارماً إلى درجة أنه ظلّ يجري المقابلات حتى عند مدخل منزله. وتواصلت المقابلات في المطار في كمبر، حيث صرح: "حصدت عدد أصوات فاق ما حصل عليه ميتيران عام 1981".
كان هولاند يضع نظارتين لا إطار لهما ويرتدي زيه الرسمي كمرشح، بزة سوداء وربطة عنق يستبدلهما أحياناً ببزة زرقاء. يبقي شعره الخفيف مصففاً بطريقة تخفي البقعة التي أصيبت بالصلع في رأسه. وكما عهدناه خلال مخاطبته الناس، لم تفارق الابتسامة ثغره.
لا شك في أن الحملة الانتخابية تركت بصماتها على فرانسوا هولاند، فقد كان في بدايتها رجلاً عادياً يبدو أحياناً غريب الأطوار. صحيح أنه لم يستطع التخلص بالكامل من حياته كمحاسب، إلا أنه تحوّل إلى مرشح رئاسي بحق مع اقتراب هذه الحملة على نهايتها. خلال الأشهر الأخيرة، ارتفعت معنوياته وأثلجت قلبه هتافات داعميه وملأته ثقة بقدرته على الفوز في الانتخابات.
كان صديق لهولاند يعرفه منذ عام 1985 ينتظره في مقهى المطار ليرحب به. وما هذا الصديق سوى برنار بوانيان، عمدة كمبر. يذكر بوانيان بتأثر: "أذكر مرحلة كان فيها هولاند بعيداً كل البعد عن المكانة التي يحتلها اليوم. اعتبر الناس آنذاك أن مسيرته المهنية والسياسة انتهت. لكني كنت أعلم أن هذا ليس صحيحاً".
إن كان هولاند يشعر بالرضا عما حققه، فهو بالتأكيد ينجح في إخفاء ذلك. إلا أنه لم ينسَ بالتأكيد يوم استقال من رئاسة حزبه قبل ثلاث سنين ونصف سنة. خسرت شريكته السابقة سيغولين رويال انتخابات عام 2007، التي فاز فيها الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي. نتيجة لذلك، كاد الحزب ينهار وبدا من السخف يومذاك التفكير ولو لحظة أن هولاند قد يصبح رئيساً للجمهورية. أما اليوم، فنرى رويال تطلق بتردد الحملات لدعمه.
توقعت استطلاعات الرأي الأخيرة خلال الأيام الأخيرة قبل الانتخابات يوم الأحد المقبل انتصاراً كبيراً لهولاند. وإن صدقت، يصبح هولاند ثاني اشتراكي بعد فرانسوا ميتيران يُنتخب رئيساً في الجمهورية الخامسة.
جانبه الغامض
إن فاز هولاند، فسيكون على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التعامل مع شريك جديد في أوروبا. شريك سبق أن أعلن أنه ينوي إنهاء سياستها التقشفية، وأنه يريد حث أوروبا على تحفيز النمو بهدف تخطي الأزمة. لا شك في أن انتخابه سيؤثر في كامل القارة الأوروبية. لذلك، من الأهمية بمكان أن نتعرف إليه جيداً.
لكن المفارقة تكمن في أن لا أحد يعرف على ما يبدو هوية هولاند الحقيقية أو ما يمكننا توقعه منه، مع أن حملته الانتخابية شارفت على نهايتها. حتى بوانيان نفسه، صديقه القديم من بريطانيا، في حيرة من أمره. يذكر: "تنتابني المشاعر ذاتها حياله. له جانب غامض. لطالما كانت هذه حاله".
خلال الحملة الانتخابية وفي الأيام التي سبقت الدورة الأولى وتلتها، ظهر هولاند بمظهر مَن يجيد أداء دوره كمرشح بإتقان غريب، فلا يتفوه إلا بكلمات مدروسة. لكن على رغم ضبط النفس الذي يمارسه، بدا محبباً. كذلك، بدا روتينه أقرب ما يكون إلى المستحيل. فطوال الأشهر الأخيرة، يبدأ نهاره باكراً في الصباح وينتهي في وقت متأخر من الليل. حتى إنه زار أحياناً ثلاث مدن في يوم واحد. مع مشارفة أيامه الطويلة هذه على نهايتها، كان التعب والإرهاق يتملكان الصحافيين الذين يرافقونه. أما هولاند، فيظل مرتاحاً ومتيقظاً.
يتميز هولاند عن غيره من السياسيين بقدرته على التعاطف مع الآخرين. يفهم هذا المرشح الرئاسي، على ما يبدو، ما يود الناس سماعه. يوم الأربعاء الماضي، خاطب عمال مصنع في مدينة مونتاتير شمال فرنسا على وشك أن يخسروا وظائفهم. فقال لهم: "أنا هنا. الوصول إلى هنا سهل، لكن المهم العودة". فأومأ المستعمون، الذين استقبلوه بنظرات ملؤها الريبة، برأسهم موافقينه الرأي.
وحدث الأمر ذاته فيما كان يجلس في مقهى في مدينة أميان الشمالية محاطاً بطلاب جامعات ومدارس ثانوية يخافون مما يخبئه لهم المستقبل. قال لهم إنه يعرف أنهم في هذه السن يريدون الوقوف على أقدامهم بمفردهم. "ترغبون في الاستقلالية. أتفهم ذلك". فوافقوه جميعاً الرأي.
تكنوقراط متعاطف
لا شك في أن جعل الناس يشعرون أنك تفهمهم موهبة، ويتمتع هولاند بهذه الموهبة، بخلاف ساركوزي الذي يعتبر التفاعل مع المواطنين عبئاً. على سبيل المثال, يتحدث هولاند بفرح إلى العمال خلال جولاته على المصانع ويبدو مسترخياً، مع أنه يبقي يديه مشدودتين خلف ظهره إلى حد تبرز معه عقد أصابعه.
تكمن نقطة ضعفه الأبرز في واقع أنه من التكنوقراط، رجل أرقام، ما يسبب له عادة المشاكل، خصوصاً في المقابلات والخطابات. يتقن هولاند إلقاء الخطابات المشحونة بالعواطف وسرد ماضي فرنسا الحافل وإرث الثورة الفرنسية والمقاومة والاشتراكية، تماماً كما فعل خلال الخطاب الذي ألقاه في كارنو في الجنوب الغربي، فيما كان يقف أمام تمثال مؤسس الحزب الاشتراكي جان جوري. لكن سرعان ما يغرق في تفاصيل برنامجه الانتخابي، مستخدماً عبارات مستهلكة. يبدو جاداً، إلا أنه يفتقر إلى القدرة على زرع الأمل والطموح في الناس.
لا يملك هولاند مَن يعتمد عليهم لإدارة حملته، بل يتولى إدارتها بنفسه ويتبنى استراتيجية بسيطة: أن يتصرف كرئيس أكثر من الرئيس بحد ذاته. بغية تحقيق هذا الهدف، حاول التمثل بفرانسوا ميتيران، وراح يقلد حركاته وطريقة كلامه. قد تظن أحياناً أن هذا أمر غريب، إذ يبدو كما لو أن ميتيران تقمصه. بيد أنه يجد أحياناً نفسه في أوضاع استراتيجية مماثلة لما اختبره ميتيران حين هزم فاليري جيسكار ديستان عام 1981. يقول: "ركّز الرئيس آنذاك على مخاوف اليسار، في حين جسد ميتيران الأمل".
لا أحد يستطيع أن يجزم أي نوع من الرؤساء سيكون هولاند، فقد اشتهر بأنه رجل عملي، ما يوحي أنه قد يتفق مع ميركل أكثر مما نظنه اليوم. لكن مع أن كثيرين في فرنسا يعتبرونه اشتراكياً معتدلاً، تبقى نظرته العالمية يسارية تقليدية. يعتبر هولاند أن النمو مسألة يجب أن تتولاها الدولة أو أوروبا أو مصرفها المركزي. يقول إنه يؤيد وضع "موازنة صارمة"، إلا أنه يعارض "التقشف الطويل الأمد". على رغم ذلك، يشمل برنامجه الانتخابي أفكاراً مكلفة كثيرة ستزيد الإنفاق بنحو 20 مليار يورو (26 مليار دولار). لكن هل يتمتع هولاند بالقوة الكافية ليصلح فرنسا من الأسفل صعوداً؟ هل يصبح نظير شيراك اليساري، أي حاكماً سلبياً؟ علينا الانتظار لمعرفة الإجابة.
التخلي عن التقشف
سيصعِّب رفض ميركل لقاء هولاند في مقابل دعمها ساركوزي تعاونها مع هولاند في المستقبل. يقول: "من المثير للاهتمام أنها رفضت استقبالي". تتجلى ثقة هولاند المتنامية من خلال الخطابات التي أدلى بها ضمن إطار حملته في الأسابيع الأخيرة. هو يعتقد أن انتخابه سيسم بداية التخلي عن سياسات التقشف في أوروبا، وقد بدا مقتنعاً غالباً أن هذا هو الحل الذي سينهي المشاكل كافة.
خلال رحلته إلى كمبر، قام هولاند بنزهة بعد الظهر في المنطقة التاريخية. استخدم القيمون على حملته فعل "هَامَ" لوصف تلك اللحظة. وقد عمَّت الفوضى حين وصل هذا المرشح إلى منطقة تعج بالمشاة. عندئذٍ، ما عاد مرافقوه يرون سوى حشد كبير من الناس متحلق حول هولاند، الذي لا يتمتع بقامة طويلة. وما كان بإمكانهم تحديد موقعه إلا بالاستعانة بمكان الميكروفونات المرفوعة فوق الحشد كما لو أنها هوائيات. أبعد هولاند حراسه الشخصيين للتواصل مع أحد المارة، الذي صاح: "أحسنت!". فجأة، علت وجهه ابتسامة بدت طبيعية ونابعة من القلب، إلا أن عينيه ظلتا صارمتين.
في يوم عاصف، كان بضع مئات من الناس واقفين تحت مظلاتهم فيما كان المطر ينهمر ليصغوا إلى هولاند أمام الكاتدرائية. انحنى هذا المرشح نحو الأمام وقال بصوت مرتفع جداً (ما يجعلك تظن أحياناً كثيرة أنه سيفقد صوته): "أعلن ساركوزي أنه سيحميكم، وماذا فعل؟ هل حماكم؟".
نظرات استخفاف
ليس هولاند خطيباً ماهراً، بخلاف ساركوزي. غير أنه أدلى بخطاب مهم نحو أواخر شهر يونيو في قاعة محاضرات قرب باريس. وضع يومذاك حملته في إطار التاريخ الفرنسي والاشتراكي، ويُعتبر هذا أبرز ظهور له لأنها كانت المرة الأولى التي يتصرف فيها كرئيس. ظل هولاند طوال سنوات "جندياً" وفياً لحزبه، إلا أنه لم يتبوأ مطلقاً أعلى المناصب ولم يصل إلى كرسي وزاري في حكومة.
يتولى هولاند راهناً رئاسة المجلس العام في دائرة كوريز، ولطالما سخر منه زملاؤه في الحزب، مشبهينه بحلوى "الفلامبيه" أو "المارشميلو" أو "الفراولة البرية". يذكر ستيفان لو فول، أحد مديري حملته: "لطالما استخف به الناس". كان لو فول مدير مكتب هولاند، حين كان هذا الأخير الأمين العام للحزب الاشتراكي بين عامَي 1997 و2008. يصفه لو فول بأنه رجل متحفظ لا يعبّر مطلقاً عن مشاعره، إلا أنه واثق بنفسه ومن السهل التواصل معه. قبل بضعة أسابيع، قال توماس، ولد هولاند البالغ من العمر 28 سنة: "أنا ابن أبي، لا يمكن ردّ سائل".
خلال رئاسته الحزب الاشتراكي، عرف هولاند بأنه "رجل دمج". اعتاد الجلوس في غرفة مع ممثلي أجنحة الحزب كافة، حيث يطلب منهم عرض آرائهم. في ختام الاجتماع، يتمكن من تلخيص كل ما طُرح بطريقة تعكس أفكار الجميع، من دون أن يكشف عن موقفه الخاص. وقد تشهد فرنسا تبدلاً جذرياً إن تولى شؤونها رجل يميل إلى التسويات، لكن لم يتضح بعد ما إذا كانت طريقة هولاند هذه ستلقى النجاح.
طفولة
ثمة مرحلة في حياة هولاند قلما يأتي على ذكرها: طفولته. ولد هذا المرشح في مدينة روان الشمالية الغربية عام 1954. يذكر كاتب سيرته الذاتية سيرج رافي أن هولاند عانى ظلم والده المستبد. كان أبوه طبيباً حاد الطبع ترشح عن اليمين المتطرف في الانتخابات المحلية. ويذكر رافي أن ابتسامة هولاند ونكاته ساعداه في البقاء بعيداً عن المشاكل خلال تلك الفترة.
إحدى اللحظات الحميمة القليلة التي شهدتها حملته كانت في تول، مدينة صغيرة في جنوب غرب فرنسا حيث بدأت مسيرة هولاند السياسية. فمساء السبت الذي سبق دورة التصويت الأولى، كان شارع المتاجر الرئيس فارغاً. دخل هولاند مع صديقته الصحافية فاليري تريرويلر متجراً للسلع الجلدية، حيث توقفا ليبتاعا حقيبة رمادية.
خرجا من المتجر معاً. سارا واليد باليد بضع خطوات في الشارع، ثم مسحت تريرويلر بتحبب أمراً ما عن ذقن هولاند، فبدا متوتراً أو حتى تائهاً. لربما كانت هذه المرة الأولى منذ أسابيع لم يكن محاطاً بها بالحشود.
يعرف هولاند معظم سكان تول، حيث خدم كعضو في مجلس المدينة وكعمدة لاحقاً. تمثل تول ما يدعوه الفرنسيون "مقاطعته". أرسل الرئيس السابق ميتيران هولاند إلى كوريز عندما كان في السادسة والعشرين من عمره للفوز بمعقد في البرلمان في مواجهة جاك شيراك، الذي أصبح رئيساً لاحقاً. يخبر صديقه القديم، عمدة كمبر بوانيان: "بدا قرار انتقاله إلى تلك المنطقة غريباً". خسر هولاند الانتخابات. يضيف بوانيان: "إلا أنه لم يعد إلى باريس، بل بقي في كوريز. بدا إصراره استثنائياً، وهذا يكشف الكثير عن شخصية هولاند". بدأت مسيرته هناك في تلك المنطقة الريفية كوريز، وهناك تعلّم التقرب من الناس.
يشارف اليوم على أن يتبوأ أعلى المناصب في الجمهورية الفرنسية. إن فاز، فسيسعد فرنسيون كثر بالتخلص من ساركوزي. بيد أن هولاند لا يبث الحماسة عموماً بين ناخبيه. اتضح ذلك على وجه الخصوص عندما سافر في اليوم الأخير من حملته قبل دورة الانتخابات الأولى إلى فيرتي لو فرانسوا في شرق فرنسا. تعاني هذه المنطقة بطالة مستشرية، كذلك تتمتع فيها الجبهة الوطنية الشعبوية اليمينية بشعبية واسعة. فمن الوظائف الثلاثة آلاف التي كانت موجودة في قطاع الصناعة المحلي، لم يتبقَّ سوى ثلاثمئة.
صحيح أن الصحيفة المحلية بذلت قصارى جهدها لتنشر خبر هذه الزيارة، لكن لم يكن أحد بانتظاره عندما وصل، باستثناء حشد الصحافيين المعهود. دخل هذا المرشح الرئاسي في النهاية بضعة مخابز ومتاجر للثياب، حيث صافح الباعة. وحاول إخفاء خيبة أمله بسبب غياب الحشود المهللة بوقار ورصانة قدر المستطاع. راح رجل ثمل يصيح في وجهه: "لن تجد شيئاً هنا. لطالما عهدنا فيرتي على هذه الحال. فلا أحد يفي بالوعود التي يقطعها هنا". عندما أنهى كلامه، كان فرانسوا هولاند ومرافقوه قد تواروا عن الأنظار.
التعليقات
ارجو فوزه
سليمان -ارجو فوزه فهو غير عنصري وغير متطرف كساركزي٠وهو جدا مؤيد للثوره السوريه ووعد بموقف حازم وسريع لانقاذ الشعب السوري٠