جريدة الجرائد

استنساخ انتخابي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبده وازن


كان جان بول سارتر يسخر من مفهوم "الانتخابات" السياسية ويدعو الى مقاطعتها، وبلغت به سخريته شأوها عندما وصفها بـ "فخ المغفّلين". كان سارتر- وفلاسفة آخرون- يرون في "الانتخابات" مهزلة ديموقراطية ووهماً من أوهام الجماعة الخاضعة لوطأة الامتثال السياسي. هذا ما يقوله سارتر عن حركة الانتخاب في فرنسا وأوروبا العريقتين في الشأن الديموقراطي، ولو قدّر له ان يلقي نظرة على ظاهرة "الانتخابات" العربية، لأيقن أنّ مقولته قد تنطبق علينا، أكثر مما على أوروبا.

لماذا ننتخب؟ كيف ننتخب؟ مَنْ ننتخب؟... هذه أسئلة يطرحها معظم المثقفين العرب عادة، عشية كل حركة انتخابية تشهدها دولة عربية. والآن يواجه المثقفون المصريون هذه الأسئلة بإلحاح، عشية "الانتخابات" الرئاسية... وغداً سيطرحها سواهم ثم سواهم. ليس من أجوبة "نهائية" أو جاهزة عن هذه الأسئلة. المشهد الثقافي المصري- مثله مثل المشهد العربي- في غاية الاضطراب، والمثقفون يحيون حالاً من التشتت، فرضته المرحلة الراهنة التي تشوبها الفوضى والشك والريبة.

أياً كانت "الانتخابات" في العالم العربي، وأياً كانت النتائج التي تسفر عنها، ديموقراطية أو شبه ديموقراطية، مزيّفة أو صحيحة... فالمثقفون لا يمكنهم ان يطمئنوا الى مشهد "القطعان" الانتخابية التي تقاد الى صناديق الاقتراع، وحافزها إمّا بضع مصالح صغيرة أو غاية طائفية، أو هدف حزبي معمّم وجاهز. يغدو المقترعون اشبه بـ "قطيع" غنم، يساقون سوقاً الى الصناديق من غير أن يقرروا هم مَنْ عليهم ان ينتخبوا... وفي لبنان، البلد الديموقراطي بامتياز، كما يُقال، يبرز هذا المشهد، في كل موسم انتخابي: يصطف المنتخبون في صفوف وعلى رأسهم شخص يحمل هوياتهم واللوائح، وليس عليهم إلا أن يُسقطوا اللوائح في الصندوق من غير أن ينظروا إليها... أمّا الصندوق فيبتلع اللوائح غير مبالٍ بالأصوت أو المقترعين. والكذبة الكبرى هنا هي الستارة السوداء التي يجب- مبدئياً- ان يختلي المقترع وراءها بنفسه، فيختار بالسر اللائحة التي يريد. ما أشدّ هول هذا المشهد: أشخاص كأنّهم "مستنسخون" سياسياً، متشابهون في حماستهم، في امتثالهم ووفائهم... هم لا يقررون ولا يناقشون ولا يعترضون بل ينفذون ما طلب... إنهم "أصوات" تفرزها "الماكينات" الانتخابية.

الانتخاب حق تنص به شرعة حقوق الإنسان. الانتخاب يحرّك الجماعة والفرد على السواء، يجدد المسألة الديموقراطية كلما تعثرت أو تلاشت... الانتخاب يدل على حال التنامي الثقافي والاجتماعي. هو أشبه بهواء الحرية، الخطوة التي لا بد من استعادتها نحو المزيد من الحرية والعدل... منذ قرون وقرون يُقبل البشر على الانتخاب. ينتصرون أو يخسرون. إنهم "مرضى" الديموقراطية. المرضى الذين لا يُشفون، بل الذين لا يعلمون أنهم مرضى. هم يظنّون انهم عندما يقترعون إنما يشاركون في الحكم، في صنع الحاكم الذين يتوهمون انه سيكون على صورتهم. إنهم يتوهمون أنّ أيديهم التي تُسقط اللوائح في الصناديق هي التي تصنع المستقبل.

لماذا ينتخب المنتخبون؟ هل إشباعاً لرضى في النفس؟ هل إتماماً لواجب؟ هل تلبية لنداء عائلي أو طائفي أو حزبي؟ أم أنهم ينتخبون نزولاً عند لذة اللعب أو المقامرة وكأن الانتخاب رمية نرد على طاولة...؟ هل يشكك المقترعون يوماً برأيهم، أم أنهم يخضعون دوماً لحكم مسبق لا يعتريه ظن؟

في البلدان الديموقراطية تتقارب "نسب" المنتخبين: خمسون أو ستون في المئة. وفي البلدان التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية تتقارب "نسب" المنتخبين أيضاً: تسعون وتسع وتسعون في المئة. يظل هناك واحد في المئة خارج الصندوق العجيب، وهو ما تحتاج إليه هذه الأنظمة لتأكيد "ديموقراطيتها". تُرى هل يسأل المنتخبون لماذا بلغ الإقبال على الاقتراع، هنا أو هناك، هذه النسبة أو هذا الحجم؟ ثم ماذا عن المواطنين الذين لم يقترعوا؟ هل فكّر أحد بهؤلاء ولماذا أحجموا عن الاقتراع؟

تُروى حكاية طريفة عن مثقفَيْن عربيَّيْن "تقدميَّيْن" التقيا في أحد مراكز الاقتراع، فسأل الأول الثاني: ماذا تفعل هنا؟ فأجابه: إنها زوجتي التي أجبرتني على الاقتراع. وسرعان ما قال له الأول: أنا ايضاً رضخت لإرادة زوجتي. ثم أضاف: إذا وعدتني ألاّ تخبر احداً عني فأنا لن أخبر أحداً عنك ... كان هذان المثقفان يدليان بصوتيهما في "انتخابات" معروفة نتائجها الطائفية سلفاً.

الآن في عصرنا الراهن الذي تسوده "غوغل" و "فايسبوك" و "تويتر" يجب ان يبدأ الكلام عن مقترعين "مستنسخين"، ولكن إلكترونياً. فهذه "الماكينات" الحديثة قادرة فعلاً، بما تملك من سلطة سحرية على الأجيال الجديدة، أن "تفبرك" و "تقولب" مقترعين يخضعون لأطياف السياسيين القادرين على استغلالها واستثمارها مادياً وسياسياً.

اقترعوا. لا تقترعوا. هذا ليس بجواب.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف