أزمة العلاقات المصرية- السعودية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أحمد يوسف أحمد
مع الزيارة التي قام بها وفد مصري ضخم يجمع رأسي السلطة التشريعية في مصر (مجلس الشعب ومجلس الشورى)، ويضم العديد من الفعاليات السياسية والثقافية والدينية، وبغض النظر عن أية سلوكيات تكون قد نُسِبَت لأعضاء هذا الوفد أو بعضهم، أمر العاهل السعودي بعودة سفيره إلى مصر يوم الأحد التالي للزيارة، وهو الموافق أول من أمس معلناً بذلك انتهاء الأزمة الأخيرة في العلاقات المصرية- السعودية.
وليست هذه الأزمة هي الأولى في المسار المعاصر للعلاقات المصرية- السعودية، ولكنها قد تكون الأخطر. في الأزمة الأولى قطعت السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع مصر على خلفية قصف الطيران المصري قواعد الملكيين اليمنيين إبان الوجود العسكري المصري في اليمن لدعم ثورتها الجمهورية في ستينيات القرن الماضي، وكان قطع العلاقات والسعي إلى توفير ظهير أميركي لحماية السعودية أمراً منطقيّاً ومتوقعاً تعبيراً عن رفض مهاجمة الإقليم السعودي، حتى ولو كان مصدر الهجوم هو مصر التي كانت في ذلك الوقت تتبوأ باقتدار موقع القيادة في النظام العربي. كان المشروع الناصري في أوجه، وله أنصاره داخل السعودية نفسها، ولم تكن مصر في حينه تعتمد على السعودية في تشغيل عمالة أو تلقي مساعدات، ولذلك كان الميزان لصالح مصر على رغم الإجراء السعودي. وفي الأزمة الثانية قطعت السعودية علاقاتها مع مصر عقب توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل، ولكن وقع الأزمة كان أقل حدة، لأن قرار قطع العلاقات كان ضمن إطار عربي جماعي. وفي هذه المرة التي لم يصل الأمر فيها إلى حد قطع العلاقات اكتفت السعودية باستخدام بعض أدوات الضغط الدبلوماسية وفقاً للتسمية الشائعة. في المرتين السابقتين كانت الأزمتان محصورتين في الخلاف بين "حكومات"، ولكنها في هذه المرة بدأت "مجتمعية" ولم يظهر العنصر الرسمي فيها إلا عند تفاقمها.
ليس جديداً أن تحدث "أزمات مجتمعية" في علاقات مصر العربية، خاصة بعد أن خرج ملايين المصريين لأول مرة إلى البلدان العربية -وبالذات بلدان النفط- سعياً إلى عمل ضاقت فرصه عليهم في وطنهم، وقد يذكر القارئ الكريم الأزمة في العلاقات العراقية- المصرية بعد انتهاء حرب العراق مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي التي لم تكن للقيادة العراقية يد فيها، وإنما بدأت بأولئك العراقيين الذين سُرِّحوا من الجيش بعد الحرب ليكتشفوا أن العمالة المصرية تشغل أماكنهم، وتصاعدت الأزمة يومها إلى حد القتل إلى أن تدخلت القيادتان العراقية والمصرية لحل الأزمة، وكانت الأولى معروفة بموقف إيجابي من العمالة المصرية في العراق. بل إن مصر والسعودية سبق لهما أن تعرضتا لمثل هذه الأزمات "المجتمعية"، وعادة ما كان يحدث عراك "مجتمعي" مصاحب لهذه الأزمات يظهر على صفحات الصحف وفي الفضائيات المختلفة، وتطول الأوصاف القاسية فيه الشعبين المصري والسعودي معاً. وأخطر ما في هذه الأزمات "المجتمعية" أنها -على العكس من الخلاف بين حكومتين الذي يمكن أن يزول في أي وقت بالمصالحة أو تغيير أيهما- تفضي إلى عداء "مجتمعي" لابد أن يترك رواسب سلبية في النفوس.
بدأت الأزمة بمظاهرات نظمها قطاع من الشباب نصرة للمواطن المصري "أحمد الجيزاوي" الذي سافر إلى السعودية لأداء العمرة، فاعتقل فور وصوله مرة بحجة أنه مدان غيابيّاً بجريمة العيب في الذات الملكية، وثانية باتهامه بمحاولة تهريب أقراص مخدرة للسعودية. ويسود الاعتقاد في مصر بأن ما حدث غير مناسب، وظلت أحداث الأزمة تتصاعد إلى أن وصلت إلى حد استدعاء السعودية سفيرها للتشاور وإغلاق مقارها الدبلوماسية والقنصلية في القاهرة والإسكندرية والسويس. كان غضب النظام السعودي مما جرى متوقعاً، ولكن المفاجأة تمثلت في الإجراءات التي تضمنها الرد السعودي، وسارعت كافة المؤسسات السياسية الرسمية في مصر بدءاً بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة وانتهاءً بوزارة الخارجية إلى محاولة رأب الصدع، وإقناع الطرف السعودي بالعدول عن إجراءاته، وعززت هذا مظاهرات محدودة أكدت شعاراتها على عمق العلاقات بين البلدين، وطالبت بعودة السفير.
ويلاحظ أن إدارة الجانب السعودي للأزمة أخذت طابع "الشدة"، فذلك يصيب المصالح المصرية بضرر بالغ بمنعه عملاً سفر المصريين للعمل في السعودية، ناهيك عن أداء العمرة. وقد بدت الإجراءات السعودية وكأنها رسالة لمن يعنيهم الأمر في مصر مؤداها أن السعودية لا يمكن أن تسمح بأي تطاول عليها، ويؤكد هذا أن رد فعل العاهل السعودي لطلب المشير العدول عن الإجراءات المتخذة لم يكن الاستجابة الفورية وإنما الوعد بالنظر في الطلب في خلال أيام. ويلاحظ أن النظام السعودي كان بمقدوره أن يتخذ إجراءات تتصاعد تدريجاً كي يلفت إلى عدم رضاه عما يجري، أو يخاطب القيادة المصرية لتأكيد ضرورة وقف تلك التطورات التي مست المقار الدبلوماسية والقنصلية السعودية، وأهانت السعودية، كما كان بمقدوره أن يصدر بياناً صارماً يمكن أن تتلوه خطوات أخرى تصعيدية ما لم تتخذ القيادة المصرية قرارات وإجراءات تحفظ كرامة السعودية.
وعلى الجانب المصري تُرِكَت إدارة الأزمة حتى تفاقمت لـ"قوى مجتمعية" تعمل تأثراً بالمناخ الثوري السائد، وعادة فإنه عندما تدير "قوى مجتمعية" أزمة في علاقات رسمية بين دولتين فإنها تكون متحررة تماماً من أية حسابات رشيدة للمصالح، وقد تنتهك في تصرفاتها قواعد القانون الدولي. ونتيجة هذا الأسلوب في إدارة الأزمة الراهنة حاصر المتظاهرون السفارة السعودية، ومنعوا الداخلين إليها والخارجين منها.
ولكن هذا كله شيء وما شهدته صفحات الفيسبوك والتويتر شيء آخر مختلف تماماً، حيث وصلت بذاءة فئة من الشباب -يفترض أنهم ينتمون إلى الثورة- حدّاً غير مسبوق، وهو سلوك تعودنا عليه للأسف في تفاعلاتنا السياسية الداخلية حيث يتم التطاول على المشير وعلى مؤسسات سيادية في مصر، وهو -أي هذا السلوك- لا يُناقَش من قريب أو بعيد في أجهزة الإعلام المختلفة التي تناقش كل شيء وأي شيء، ربما تخوفاً من قبل ناقدي هذا السلوك من أن يُحسَبوا ضمن قوى "الثورة المضادة"، وكأن الثورة والبذاءة صنوان، مع أن الاعتماد على وسائل ضغط جماهيرية منظمة وفاعلة، وحملات إعلامية كان ليأتي بنتائج أفضل بكثير من "البذاءة" لو كانوا يعلمون، وكان من شأنه أن يستبق ردود فعل سعودية كتلك التي حدثت. وقد ترتبت على هذا الأسلوب ردود أفعال مماثلة من قبل مواطنين سعوديين مرفوض سلوكهم بدوره. أما الحكومة المصرية فلم تتدخل من قريب أو بعيد في الأزمة اللهم إلا في الحد الأدنى المتمثل في حماية المقار الدبلوماسية والقنصلية السعودية من الاقتحام. وعلى رغم أن الأزمة تعتبر في حكم المنتهية إلا أن طرفي العلاقة المصرية- السعودية عليهما أن يدركا أنها تحتاج تحصيناً يقيها من تكرار هذه الأزمات مستقبلاً.