جريدة الجرائد

مانديلا ينصح تونس ومصر: لا تنتقموا بل توافقوا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

احمد القديدي

بعث لي بعض الأصدقاء مشكورين هذا المقال الذي كتبه أو أملاه كبير المناضلين نيلسن مانديلا ينصح فيه الماسكين بدفة الحكم في تونس ومصر قبل أن تلتحق ليبيا واليمن وقريبا سوريا بموكب الربيع. وصادف أني كنت هذه الأيام أطالع بالفرنسية كتاب مذكرات مانديلا الذي صبر وصابر في السجون 27 عاما ثم حقق أعظم ثورة سلمية في العالم من أجل القضاء على عار التميز العنصري وإقامة دولة ديمقراطية عادلة جمعت بين البيض سادة الأمس وبين السود أصحاب الحق دون السقوط في حروب الردة والنكوص ودون فتح أبواب الفتنة والتصفيات والانتقام والتشفي. فإذا لم نسمع نصيحة هذا البطل الحكيم فمن نسمع؟ إننا في تونس ومصر نجد أنفسنا في نفس حالة إفريقيا الجنوبية عند انتصار مانديلا لكن دون الوسيط الحكيم ديسموند توتو الذي ترأس هيئة الحقيقة والمصالحة وعبر بالشعب جسر الانتقال من الثورة إلى الدولة ومن الاستبداد إلى الحرية ومن الحرب إلى السلام. يقول مانديلا للتونسيين والمصريين ولسائر العرب: "أعتذر أولا عن الخوض في شؤونكم الخاصة، وسامحوني إن كنت دسست أنفي فيما لا يعنيني. لكني أحسست أن واجب النصح أولا، والوفاء ثانيا لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام قراع التميز العنصري يحتمان علي رد الجميل وإن كان بإبداء رأي محّصته التجارب وعجنتْه الأيامُ وأنضجته السجون".

أحبتي ثوار العرب، مازلت أذكر ذلك اليوم بوضوح. كان يوما مشمسا من أيام كيب تاون. خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه. خرجت إلى الدنيا بعد أن وُورِيتُ عنها سبعا وعشرين سنة لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد. ورغم أن اللحظة أمام سجن (فكتور فستر) كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الغياب، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا؟

أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير. وهو سؤال قد تُحدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم. إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي. أو على رأي أحد مفكريكم فإن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل. أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تؤكد بأن معظم الوقت هناك مهدور في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء. كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وعزل كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة وهو رد فعل خاطئ في تقديري أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم لا تمحى، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة. فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن".

ويواصل مانديلا تحليله الواعي للوضع الثوري في تونس ومصر فيقول: "أنتم في غنى عن ذلك، أحبتي. إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن. عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائيا ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة".

أذكر جيدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد. لذلك شكلت "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر. إنها سياسة مرة لكنها ناجعة. أرى أنكم بهذه الطريقة - وأنتم أدرى في النهاية - سترسلون رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الأخرى أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد تخففون من خوف وهلع الديكتاتوريات من طبيعة وحجم ما ينتظرها. تخيلوا أننا في جنوب إفريقيا ركزنا - كما تمنى الكثيرون- على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع القصص النجاح الإنساني اليوم وأتمنى أخيرا أن تستحضروا قولة نبيكم: اذهبوا فأنتم الطلقاء".

هذه فقرات من نصائح زعيم قاد ثورة حضارية أدهشت العالم والغريب أنه يذكرنا نحن المسلمين بترفع نبينا المصطفى حين كان قادرا على الثأر فاختار العفو عند المقدرة وكان مثالا للمسلمين. عسى أن يقرأ التوانسة والمصريون والليبيون واليمنيون والسوريون هذا الأدب السياسي الراقي ويعتبروا اعتبار المؤمنين الصادقين.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف