على هامش أحداث مصر الكبرى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حازم صاغية
لم يتردّد بعض المصريّين في وصف رئيس جمهوريّتهم المقبل بأنّه سيكون "مثل ملكة إنكلترا"، أي صوريّاً وعديم الصلاحيّات التنفيذيّة. فكما بات معروفاً، قضت القرارات الأخيرة للمجلس العسكريّ الحاكم بالحدّ من سلطات الرئيس المنتخب، أيّ رئيس، وبتعزيز دور القوّات المسلّحة ومنحها موقعاً حاسماً في كتابة دستور مصر الجديد.
وهذه القرارات التي وُصفت على نطاق واسع، وبحقّ، بأنّها "انقلاب ناعم" وأنّها "انقلاب دستوريّ"، نفّذه لمصلحة الجيش قضاة المحكمة الدستوريّة العليا المعيّنون في عهد مبارك، هي التي تفسّر انخفاض نسبة التصويت في المواجهة الأخيرة بين محمّد مرسي، الإخوانيّ، وأحمد شفيق، "الفلوليّ". فإذا صحّ أنّ ثورة يناير أصيبت بانتكاسة كبرى، صحّ أيضاً، واستطراداً، أنّ السياسة ذاتها أصيبت بانتكاسة أعادت الاعتبار لشعور اللاجدوى العريض بـ "أقدار" تهبط من الأعلى ولا يملك الشعب وإرادته رادّاً لها.
وإذا وضعنا جانباً الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها قوى الثورة، وما ترتّب على تشرذمها، لا سيّما حماقات الإخوان غير البريئة في الرهان على برنامجين وسلوكين في وقت واحد، تبيّنت لنا الحقيقة الأهمّ، والتي ربّما كانت أخطر حقائق التجربة المصريّة الجديدة: ذاك أنّ تلك القوى، الآتية من عقود اللاسياسة، لم تنمّ عن أيّ إدراك جدّيّ لمعنى الدولة وسلطتها ممّا تنوي وضعه في عهدتها. هكذا، تُرك لكثير من الاستعراض والفولكلور أن يسرق الضوء، بينما لم تُخض أيّة معركة جدّيّة لتغيير السلطة القضائيّة مثلاً! وقد بدا عدم التماسك فاضحاً حيال التعامل مع أحمد شفيق ومع حقّه في الترشّح فيما كانت المؤسّسة العسكريّة تشحذ دهاءها الذي تراكم على مدى عقود أدار الجيش فيها مجتمع مصر وصنع سياساتها.
وكم هو لافت، وكدليل آخر على حبّنا للاستعاضة اللغويّة، أن يدرج تعبير "الدولة العميقة" (الذي سكّه المثقّف المصريّ الراحل نزيه الأيوبيّ) في الوقت الذي تكشّفت فيه، على أوسع نطاق، ضحالة فهم الدولة بصفتها لا تتعدّى بضعة مناصب رفيعة.
وقصارى القول إنّ مصر اليوم تبدو وكأنّها تستقرّ، هي الأخرى، على "حلّ يمنيّ" يتابع مسيرة الاستبداد من دون الرمز الاستبداديّ الأوّل. واحتمال كهذا إنّما يجد ما يعزّزه في الانتصاف السكّانيّ الذي أشارت إليه آخر المواجهات الانتخابيّة، بما ينشئ أساساً للتطابق بين السياسيّ والمجتمعيّ، مخفّفاً الطابع القمعيّ لما هو قمعيّ تعريفاً.
ويُخشى أن يكون الانتقال من "المستبدّ الأوحد" إلى "استبداد من غير مستبدّ" هو ما ستُحمَل الثورة المصريّة على التوقّف عنده، وهو ما سيكون الشكل المصريّ في "التكيّف مع العصر وإملاءاته". لكنّ ما يُخشى، أكثر من ذلك، أن تتأكّد تلك النظريّة القائلة إنّ الثورات ليست مهنة عربيّة: فهي في البلدان المنسجمة سكّانيّاً تُحِلّ وجوهاً محلّ وجوه، أو تتقلّص إلى حدود غرف القصر ومؤامراتها، أمّا في البلدان الضعيفة الانسجام فتنقلب حروباً أهليّة مفتوحة.
... نؤثر، على رغم كلّ شيء، أن نتمسّك بالإصرار على أنّ ما بدأ في "ميدان التحرير" لن يتوقّف. أمّا أن يكون المرء ساذجاً فأفضل ألف مرّة من أن يكون سينيكيّاً.