مـصــر وأمـيـركــا.. لا جـديــد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سمير كرم
لا بد ان تكون أميركا قد اطمانت الى ان الوضع في مصر استقر عند خط الانحياز لأميركا.
وانحياز مصر لأميركا يعني ـ أكثر ما يعني ـ فقدان مصر دورها في وطنها العربي وفي إقليم الشرق الاوسط وفي العالم.
وانحياز مصر لأميركا ـ بهذه الصورة والى الحد الاقصى الذي تحقق نتيجة للتطورات السياسية الاخيرة في مصر ـ معناه اقتراب مصر الى خط الانحياز ايضا الى اسرائيل.
اطمانت أميركا الى استمرار ما بينها وبين مصر من علاقات. واذا كان من ضرورة للتساؤل عن طبيعة هذه العلاقات فلا بد من وضع النقاط على الحروف. ان ما بين مصر وأميركا منذ نحو أربعين عاما هو تحالف عسكري وسياسي، وليس مجرد تلاق أو تشابه مصالح واتفاق مواقف في السياسة الخارجية. وهذا ينطبق الآن على "ادارة الرئيس محمد مرسي" بالصورة نفسها التي انطبقت على كل الادارات التي حكمت أميركا منذ العام 1979 حتى الآن. وهذا هو بالتحديد معنى ما قالته صحيفة "لوس انجلوس تايمز" الاميركية (المعلق جيفري فلايشمان في 29 حزيران /يونيو الماضي): "يقول الخبراء ( الاميركيون طبعا) انه بينما يتسلم أول رئيس إسلامي السلطة، لا يستطيع البلد ولا يقدر أن يلحق الضرر بالعلاقات مع الولايات المتحدة أو ان يتخلى عن معاهدة السلام بينه وبين اسرائيل، على الاقل في الامد القريب. ان سياسة مصر الخارجية في ظل أول رئيس إسلامي يرجح ان تتغير في طبقة الصوت وليس في الجوهر، ذلك ان الحكومة الجديدة لا تستطيع ان ترهق العلاقات مع الولايات المتحدة أو ان تخاطر بالتخلي عن معاهدة السلام التي وقعتها مع اسرائيل في العام 1979".
بل ان توماس فريدمان المعلق السياسي البارز في صحيفة "نيويورك تايمز" معبرا عن معنى أبعد من اللحظة الراهنة التي وصفتها "لوس انجلوس تايمز" حيث اعتبر ان مصلحة أميركا ترى ان "الاخوان المسلمين بحاجة الى ثورة فكرية تقربهم الى سياسة أميركا الخارجية". ومعنى هذا ان أميركا لا تكتفي بالحصول على ما حصلت عليه من ضمانات من جانب الاخوان المسلمين (حكام مصر الجدد) عن تمسكهم بالعلاقات مع أميركا ومع اسرائيل. ومعنى هذا أن مصر تقف اليوم في أبعد نقطة عن الخط السياسي الذي تستطيع عنده ان تكون مصدر إلهام قومي أو إقليمي للقوى الجماهيرية العربية والاقليمية كما كانت في الماضي. ومن الواضح ان لحظات الذروة في خطب الرئيس مرسي لم تتضمن أي معنى يمكن ان يقلق أميركا أو اسرائيل بشأن نيات مصر. فقد انصبت لحظات الذروة، التي علا فيها صوت الرئيس مرسي كثيرا، على مشكلات مصر الداخلية وتجنبت السياسة الخارجية بما في ذلك البعدان القومي والاقليمي. صحيح انه لم يتجنب كلية أي حديث عن السياسة الخارجية لكنها جاءت خارج لحظات الذروة وأشارت بهدوء الى تأييد مصر للفلسطينيين. وتجنب الرئيس المصري التطرق الى دور مصر خارج حدودها. بل انه تجنب ما تعرضت له مصر من أذى معنوي وأخلاقي من جانب السعودية ومن جانب الامارات العربية المتحدة. حتى حكاية مطلب الإفراج عن الشيخ عمر عبد الرحمن السجين في الولايات المتحدة لاتهامه بالتخطيط لعملية تفجير في أسفل بناية مركز التجارة العالمية في نيويورك قبل سنوات من عملية نسف هذا المبنى بالكامل بعد سنوات في 11/9/2001، فإن الرئيس مرسي لم يرد ان يصارح المصريين بأنه لا مجال للافراج عن الشيخ لان الرئيس الاميركي نفسه لا يملك هذه السلطة.
وتبقى الاتصالات العلنية، والسرية من حيث المحتوى، بين كبار القادة والمسؤولين الاميركيين وقادة المجلس الاعلى للقوات المسلحة المصرية مستمرة قبل صعود محمد مرسي الى الرئاسة أو بعدها. فالاميركيون حريصون كل الحرص على الجانب العسكري من العلاقات مع مصر. هي في نظرهم الضامن الحقيقي للتحالف القائم بين البلدين وبينهما وبين اسرائيل. وبينما تتغير الادارات الاميركية فإن سياسة أميركا الخارجية تبقى كما هي. ولهذا فإنه لا معنى للتعويل على أي تغيير يمكن ان يسفر عنه تغيير يحتمل ان يحدث بصعود إدارة جمهورية مكان الادارة الديموقراطية الحالية التي يرأسها باراك اوباما. ان ثوابت السياسة الخارجية الاميركية ثوابت بكل معنى الكلمة، من اسرائيل الى كوبا (المحاصرة اقتصاديا من جانب أميركا منذ أكثر من خمسين عاما) ومن السعودية الى المكسيك. تتغير الادارات الاميركية وتبقى سياسة أميركا الخارجية كما هي من دون تغيير، عدا أمور ضئيلة للغاية لا تكاد ترى بالعين المجردة.
مع ذلك فإن هناك أوقاتاً تطلب فيها الولايات المتحدة من حلفائها ان يثبتوا ولاءهم. وفي الوقت الراهن ومع صعود اول رئاسة اسلامية الى السلطة في مصر فإن الولايات المتحدة تريد من الرئاسة المصرية الجديدة ان تنتهج سياسة مؤيدة لها ـ ولإسرائيل ـ تجاه ايران. وفيما يسود بين جماهير التحرير المصرية مطلب الانفتاح على ايران، البلد الاسلامي الذي يعادي اسرائيل ويقف ضد أهدافها التوسعية، فإنه ليس من المتوقع ابدا ان يتجه الرئيس الاسلامي الجديد لمصر نحو الاستجابة لهذا الطلب الجماهيري الذي يبدو منطقيا ولا يمكن الاعتراض عليه من أي من زوايا المصالح المصرية أو العربية أو الاسلامية.
إنَّ الرئيس مرسي يعرف جيدا حدوده وحدود القرار الذي يمكن ان يتخذه تجاه ايران في الوقت الحاضر. انه يعرف جيدا ان دول الخليج تضع قواعدها وموانيها ومطاراتها تحت أمر أميركا لمهاجمة ايران اذا قررت الولايات المتحدة المضي في هذا الطريق الوعر. بل ان دول الخليج ذهبت الى أبعد من ذلك اذ قدمت ضمانات بإتاحة مجالها الجوي للطائرات الاسرائيلية اذا تطلب هجوم جوي اسرائيلي على أهداف ايرانية مثل هذا الإجراء. هذا على الرغم من ان دول الخليج جميعها ترتبط بإيران بعلاقات ديبلوماسية عادية فضلا عن العلاقات التجارية. وهذه هي الحدود التي يستطيع ان يتحرك الرئيس مرسي في إطارها. فهو يمكن ان يقيم علاقات ديبلوماسية مع ايران انقطعت منذ سقوط شاه ايران المخلوع ولجوئه الى مصر في عهد الرئيس السادات في عام كامب ديفيد ذاته (...) بل ان التقدم نحو هذه الخطوة سيعد تصرفا بالغ الحرأة من جانبه. وقد تسمح الاتصالات مع أميركا بالتوصل معها الى اتفاق يسمح بإقامة علاقات ديبلوماسية مع طهران. وما عدا ذلك فإن الامور تبقى كما هي وتبقى مصر رهينة العلاقات مع أميركا والضمانات المعطاة لإسرائيل.
علينا ـ في كل الاحوال ـ ان نتوقع أفول موضوعات السياسة الخارجية في عهد الرئيس محمد مرسي حتى وان ارتفعت طبقة الصوت بشأن العلاقات مع الولايات المتحدة واسرائيل. وهذا أمر تتوقعه الولايات المتحدة نفسها وغالبا ما ستسكت عنه، ما دامت الاتصالات مستمرة ـ في لقاءات بالقاهرة وواشنطن - بين مسؤولي البلدين وقادتهما العسكريين، بما في ذلك الاتصالات عبر الهاتف على النحو الذي جرى قبل أيام قليلة بين ليون بانيتا وزير الدفاع الاميركي والمشير حسين طنطاوي رئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة المصرية. وسيزيد من الضغوط على الرئيس الجديد ما يحصل عليه العسكريون في بلده من مساعدات بقيمة مليار وثلاثمئة مليون دولار سنويا من المساعدات الاميركية". وبطبيعة الحال فإن مرسي لم يستطع ان يتجاهل صيحات ميدان التحرير. لقد اتخذ موقفا ناقدا من اسرائيل بسبب تعدياتها المتكررة على حدود مصر، وقال انه ينبغي ان تفهم اسرائيل ان السلام أفعال وليس مجرد أقوال، وان التهديدات التي يوجهونها احيانا الى مصر غير مقبولة ويتعين عليهم ان لا يعتقدوا ان رئيس مصر سيتراجع.
يتساءل كثيرون اذا كان الرئيس مرسي والاخوان المسلمون سيجدون أنفسهم مضطرين لان يعكسوا ديبلوماسيا سياسات تركيا (الطيب اردوغان) الجريئة لكن المعتدلة، ام انهم سينتهجون سياسة اكثر تشددا وأشد عداء للغرب. والاجابة المنطقية عن هذا السؤال تبرز من خلال مراقبة الموقف التركي من اميركا وكذلك الموقف الاميركي من تركيا. فالواضح ان تركيا لا تزال تظهر التزاما قويا بالتحالف القائم بينها وبين الولايات المتحدة ـ بما في ذلك العضوية التركية في حلف الاطلسي ـ وقد أظهرت الفترة الاخيرة ان تركيا اردوغان تبدي حرصا على العودة الى التقارب مع اسرائيل بعد فترة من التوتر أعقبت حادثة الهجوم الاسرائيلي على سفينة تركية، كانت تريد اختراق الحصار الاسرائيلي على غزة. في الوقت نفسه لا تبدي الولايات المتحدة من جانبها أي غضب تجاه سياسات تركيا تحت حكم يوصف ايضا بأنه إسلامي.
ويبدو ان النموذج التركي يلائم كثيرا سياسات مصر تحت رئاسة الاخواني الدكتور مرسي. وليس أدل على ذلك من الموقف الذي ورثته بهدوء، وربما نقول بطاعة، من المجلس العسكري، والذي يتمثل في تبني موقف "المعارضة" السورية بعقد مؤتمر في القاهرة لدعم هذا الموقف وتشجيع هجمات المعارضة ضد الحكومة في سوريا. ان الموقف المصري إزاء المسألة السورية يتشابه، ان لم نقل يتطابق مع الموقف التركي. ويلقى الموقف التركي من أحداث سوريا ترحيبا قويا من جانب الولايات المتحدة التي تسير سياساتها الجديدة في المنطقة نحو دعم هيمنة التنظيمات الاسلامية.
هكذا يبدو ان علاقات مصر بالولايات المتحدة في "العهد الجديد" تتسم بالاستمرارية في حقيقتها أكثر مما تتسم بالانقطاع. واذا كان هذا يبدو أكثر وضوحا في مجال السياسة الخارجية، بسبب جذرية العلاقات مع الولايا ت المتحدة، فإن السياسات الداخلية مرشحة بالمثل لسياسة الاستمرارية، وليس لسياسة الانقطاع، بسبب انقسام الشارع المصري ـ كما أظهرت أرقام المؤيدين والمعارضين لمرسي والاخوان في الانتخابات المصرية ـ الى قسمين متساويين. الامر الذي يفرض على مرسي من الآن ان ينتهج سياسة تحاول ان ترضي الطرفين، أو بالاحرى سياسة تتجنب إغضاب أي من الطرفين في ما يتعلق بمدنية الدولة أو دينيتها، في ما يتعلق بالخلافة الاسلامية أو القومية العربية كتوجه سياسي عام في الداخل والخارج، في ما يتعلق بتطبيق الشريعة أو القبول بشخصية مصر الثقافية تجاه القضايا الاجتماعية والثقافية.
واذا كان هناك من يرى ـ من الجانب الاميركي ـ ان الاخوان المسلمين بحاجة الى ثورة فكرية، كما سبق ان ذكرنا ـ فإن هذا الجانب لم يعنه في كثير أو قليل احتياجات الاخوان الداخلية لإحكام قبضتهم على السلطة، انما عناهم ان تكون ثورة فكرية تقرب الاخوان المسلمين الى مفاهيم السياسة الخارجية الاميركية وأهدافها.
وقد تكتفي الولايات المتحدة في الاجل القريب بعلاقات التحالف العسكري مع مصر وبالضمانات المصرية لاستمرار السلام مع اسرائيل. أما في الأجل البعيد فإن الامور مرهونة بالشعب المصري ومصالحه وعلاقاته العربية والاقليمية، وليس بالموقف الاميركي الذي لا يتغير.
ان مصر مقدمة على صراع بين الاستمرارية والتغيير. وبتعبير أقرب الى ما يراه الميدان المصري صراعاً بين القديم والثورة.