تركيا والصين: "القوة الناعمة" بِلا "كوادر ناعمة"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
جهاد الزين
تشكِّل كل من تركيا والصين حالتين من الهوة العميقة بين القدرة الإقتصادية و بين "الفقر" المدقع في القدرة الثقافية على توظيف "قوّتها الناعمة" في مناطق نفوذها الإقتصادية والسياسية الخارجية. محاولة لقراءة هذا الفراغ على ضوء المشاركة في ندوتين، كل منهما حول دولة من الدولتين:
الأصدقاء والمعارف الأتراك أكانوا باحثين أم ديبلوماسيين، حين تجمعني بهم مناسبات عمل في السنوات الأخيرة، التي هي سنوات "اشتداد" الحديث عن دور صاعد لتركيا، لا يخفون قلقهم من ظاهرة مستمرة في تركيا اليوم هي غياب بنية الباحثين والخبراء، وحتى الصحافيين، الجديين الأتراك في معرفة العالم العربي لغةً واجتماعاً وانتروبولوجيا وتواريخ محلية، أي في مجالات العلوم الإنسانية والثقافية عموما على غرار البنى البحثية و المعرفية المزدهرة تقليديا في الجامعات والصحافة الأوروبية والأميركية والروسية والممتدة ميدانياً الى قلب كل بلد عربي.
البعض من المعنيين الأتراك يكتبون ذلك بين الوقت والآخر كعلامة على أن هذا الفراغ يشكِّل نقصاً بنيويا في طاقة القوة الصاعدة التركية بل في تعريفها لنفسها يجعل إعادة النظر في تعريف "القوة" أمرا ضرورياً لمنع المبالغة فيها. فقوّةٌ عظمى، إقليميةً كانت أو طبعاً دولية، لا يستقيم تعريفها بهذا الإسم تماما بدون بنية من الإختصاصيين في كل مجالات العلوم الإنسانية للبلدان التي تلعب أدواراً سياسية أواقتصاديةً فيها، لا يستقيم حضورُها المؤثِّر عميقاً بدون "جيش ناعم" من الباحثين القادرين على حمل و"ترجمة" هذه "القوة الناعمة" التي يتمتع بها البلد المعني كنموذج اقتصادي او سياسي او كليهما معاً. لقد قال لي مرةَ سفيرٌ تركيٌّ في لقاء في اسطنبول: "كيف نكون قوة إقليمية عظمى وليس لدينا حتى اللحظة معرفة حقيقية بالعالم العربي؟ ما كنا نعرفه أيام التاريخ المشترك مع العرب لم يعد كافياً بل لم يعد نافعاً بكل المعايير".
وفي الندوة المهمة الأخيرة التي عقدها مركز كارنيغي للشرق الأوسط ومركز"TESEV" البحثي التركي في 29 حزيران المنصرم في بيروت، أتيح لي أن أقول للأتراك الحاضرين ومن على منبر إدارتي للجلسة الثانية "لا نريد لكم في تركيا أن تصبح علاقتكم المعرفية بالثقافة العربية شبيهة بذلك "القارئ"الآتي من جنوب إفريقيا الذي التقيته في سيراليون مرةً وعرفتُ أنه يحفظ القرآن حرفياً وبكامله و لكنه لا يفهم كلمة واحدة منه. ومثله التقيتُ لاحقا في مناسبات أخرى بماليزيين وفليبينيين!" وأرجو أنني لم أكن قاسياً ولا مبالِغاً في هذا التشبيه. ولكن كنتُ أريد أن أقول أن احتكار المعرفة بالعالم العربي بـ"الإسلاميين" وحدهم في تركيا ليس كافياً... وهذا له معنى خاص في السياسة التركية اليوم بمعزل عن أهميتهم في إعادة تجديد الإندفاعة الأناضولية نحو الشرق العربي والمسلم. فأول ما يجب أن نعيد تسجيله هنا لأنه مصدرٌ للكثير من الإلتباسات الجوهرية هو أن النموذج التركي وُلِد حصيلة جهود أجيال من المدرسة العلمانية التركية منذ تأسيس الجمهورية ولم يولَدْ مع مجيئ"الإسلاميين" الى السلطة في أنقره بمعزل عن نجاحات هؤلاء الأكيدة في المجال الإقتصادي.
حجم البنى الإختصاصية المتعلقة بالعالم العربي في بلدان "صغيرة" مثل هولندا والنروج والدانمرك والسويد يتطلب فورا رفع الهلالين عن كلمة "صغيرة" لأنها بنى ضخمة مؤسساتياً وموازناتٍ، فكيف حين يتعلق الأمر بدول "متوسِّطة" مثل ألمانيا وفرنسا وطبعا بريطانيا دون الوصول الى الولايات المتحدة الأميركية.
النموذج الآخر لبلد ذي "قوة ناعمة" كبيرة ولكن بدون "كوادر" كافية مختصة في مجالات العلوم الإنسانية المختلفة حيث يملك نفوذا هو أوسع بكثير من المدى الإقليمي الذي لتركيا، هو...الصين.
في سياق ندوة عقدها "المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق" في بيروت يوم الإثنين 16 تموز الجاري خصيصاً بمناسبة استضافته للخبير الفرنسي المعروف في الشؤون الصينية والأستاذ في الأكاديمية الديبلوماسية الصينية في بكين ليونيل فيرون الذي قدّم تقريرا تحت عنوان "العلاقات الصينية - الأميركية: الوضع الراهن، آفاق التطور، والإستراتيجيات"... في هذه الندوة لفت نظري أن الباحث فيرون- وهو ديبلوماسي سابق- قال أن معظم القيادات والكوادر العليا في الدولة والحزب الشيوعي الصينيّين ليست لديها ثقافة معرفية جادة عن العالم الخارجي، بمن فيهم رئيس الدولة نفسه.
هذا الرأي مدهش بل "عجيب" قياسا على أنه يتعلق بدولة باتت تملك الإقتصاد الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية.وهي دولة تقدِّم، حسب الباحث المرموق، نموذجا لا سابقة له هو وجود اقتصاد رأسمالي حر في نظام سياسي مركزي شيوعي فعلي. وإذا أضفنا إلى ذلك معرفة الجميع بحجم النجاحات الإقتصادية التصديرية والإستثمارية الصينية في العديد من مناطق العالم الشاسعة... لأصبحت المفارقة الصينية هائلةً من حيث الفارق بين "القوة الصلبة" الإقتصادية وامتدادها كـ"قوة ناعمة" أي جاذبية النموذج، وبين غياب البنية البشرية المختصة في العلوم الإنسانية وانتشارها المعرفي في الخارج وعن الخارج.
طبعا هناك استثناءات على هذه الصورة لأنه لا يخلو ولن يخلو الأمر من وجود استثناءات لمختصين جديين سواء في تركيا اوالصين أو لموازنات سد جزء من الفراغ (ولا أظن اليابان بعيدةً عن هذه المفارقة في الهوة بين الاقتصادي والثقافي)...غير أن "القوة الناعمة" المدعّمة
والراسخة في العصور الحديثة هي "وحدها" القوة الغربية. وها هي اليوم في واحدةٍ من أعلى ذراها في العالم العربي، إن لم تكن الأعلى في تاريخنا منذ القرن الـ19: "الربيع العربي" الذي إلتحقت به تركيا مهرولةً، و سَمّتْه الصين "مؤامرة" في أشهره الأولى!!