دارفور.. ليست جرح السودان النازف الوحيد!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محجوب محمد صالح
ما من منطقة في السودان اكتسبت شهرة إقليمية وعالمية مثل دارفور خلال العقد الماضي؛ وذلك بسبب الحرب الأهلية التي تدور رحاها هناك وبسبب الاهتمام الذي أولاه الإعلام العالمي لها حتى بات يتحدث عنها أُناس في شتى أنحاء العالم وهم يجهلون حتى موقعها في الخريطة.
ورغم هذا الاهتمام العالمي فإن أزمة دارفور ما زالت تراوح مكانها وتستعصي على الحل الذي يتقبله كل أطراف الصراع وما زالت القضية تتجول بين العواصم الدولية والإقليمية بحثاً عن حل شامل ما زال بعيد المنال، ورغم أن حدة القتال الضاري قد هدأت كثيراً فإن الانفلات الأمني والصراعات الدامية المنقطعة ما زالت حدثاً يومياً، وبين حين وآخر تعود أخبار دارفور لتحتل الصدارة في أجهزة العالم كما حدث الأسبوع الماضي.
الأسبوع الماضي شهد حدثين ارتبطا بهذه االقضية بصورة أو بأخرى: الحدث الأول هو القرار الصادر من مجلس الأمن بتمديد فترة بقاء قوات حفظ الأمن الإقليمية الدولية في الإقليم باعتبار أنها عملية مشتركة بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والتي تعرف اختصاراً باسم (اليونميد) لمدة عام آخر مع تخفيض عدد القوات العاملة في إطار هذه القوة من حوالي عشرين ألف عنصر إلى سبعة عشر ألفاً.
يبدو أن الثنائية باتت قدراً يلازم السودان فحينما كان مستعمرة رفرف في سمائه علمان لدولتين مستعمرتين: العلم المصري والعلم البريطاني، والآن تحفظ السلام فيه قوة ثنائية إفريقية أممية، لكنها قوة لا يحس أحد بوجودها ولم تستطع أن تحفظ أمناً ولا أن تحقق استقراراً بل وفشلت في أن تحمي أفرادها الذين تعرضوا للقتل والاختطاف، والأموال التي صرفت عليها كان من الممكن أن تحل أزمة دارفور لو صرفت في تنمية المنطقة. وبالأمس مددوا لها عاماً آخر واعتمدوا لها مليارات الدولارات لتصرف على (نشاطها) غير الملحوظ في دارفور!
أما الحدث الثاني الذي يعكس حالة الاحتقان في هذا الإقليم فهو مقتل ثمانية أشخاص وإصابة أكثر من عشرين خلال مظاهرات احتجاجية وقعت في مدينة نيالا يوم الثلاثاء الماضي قادها طلاب يحتجون على غلاء الأسعار، وقد شهدت العاصمة ومدن أخرى احتجاجات مماثلة لكن لم يسقط فيها قتلى، وانفردت دارفور بهذا الحدث لأنها تعيش في حالة احتقان عالية وثقافة عنف تواترت.
قضية دارفور تعتبر مؤشراً مهماً لحالة الاحتقان التي تعيشها أنحاء عديدة من السودان مع تنامي الإحساس لدى مجموعات عديدة من أهل السودان بأنهم يفتقدون العدل والإنصاف في دولتهم، وأنهم لا يتمتعون بكامل حقوق المواطنة في التنمية والخدمات ولا يشاركون في صنع القرار وأنهم تحولوا من مواطنين إلى رعايا، ولم يعد هذا الإحساس (بالتهميش) جهوياً فالمرء قد يحس به وهو يعيش في العاصمة لأنه يجد نفسه يعيش على هامش الحياة في المدينة؛ ولذلك فإن دارفور ليست جرح السودان النازف الوحيد فقد تكاثرت جراحنا النازفة.
نموذج دارفور جاء تكراراً لنموذج الجنوب، وأصبح في نفس الوقت نموذجاً احتذته مناطق أخرى تنحصر الآن في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وقد تنفجر في وجهنا في مناطق أخرى ونحن نواجه الضغوط الاقتصادية الحالية، وهذا وحده سبب كافٍ لأن نواصل البحث عن مشروع وطني جديد لو أردنا لهذا الوطن أن يتجاوز أخطاء الماضي ويحافظ على وحدته ويحقق أمنه واستقراره.
إن هذه الأحداث المتلاحقة وهذا الاحتقان في علاقة الشمال بالجنوب وهذه الأزمة الاقتصادية الحادة كلها أعراض لمرض واحد وهو أن المشروع القائم فشل في أن يحقق للسودان وحدته وتقدمه ونهضته، وأنه قد فقد كل مبررات بقائه، وقد آن أوان التغيير الذي يواكب هذه المتغيرات ويؤسس لدولة جديدة على أسس جديدة ومفاهيم جديدة تستلهم الموروث السوداني لتخاطب التحديات الجديدة وتنشئ أجهزة حكم راشد للناس وبالناس عبر نظام حكم ديمقراطي بمشاركة جماعية ومؤسسات متعددة قائمة على العدالة والإنصاف والحرية والمشاركة الفاعلة في صناعة القرار وسيادة حكم القانون والتبادل السلمي للسلطة. وهذه المرتكزات لا ينبغي أن تطرح كشعارات ولكن ينبغي أن تتحول إلى خطة عمل لتأسيس الدولة على قواعد جديدة.
إننا الآن نعيش في حالة من انعدام الرؤية الشاملة وننظر إلى القضايا نظرة التجزئة فنتعامل مع دارفور كأنها أزمة منفصلة تماماً عن أزمة النيل الأزرق أو أزمة جبال النوبة أو مظاهرات نيالا أو الحركات الاحتجاجية في الخرطوم والمدن الأخرى رغم أن هذه الأحداث جميعاً ليست سوى أعراض متعددة لمرض واحد، ولا يمكن معالجة أي منها بمعزل عن الأخرى، ولا بد من أن يأتي العلاج شاملاً والتغيير كاملاً يطال كل هذه القضايا ويرسم السياسات المستقبلية مستفيداً من دروس الماضي الذي حفل بالإخفاقات.
تجزئة القضايا والنظر إلى كل قضية بمعزل عن باقي القضايا يمثل خللاً خطيراً في نظرتنا لمسلسل الأزمات الذي ظللنا نعيش في كنفه خلال المرحلة الأخيرة، والخروج من هذا المستنقع يبدأ بإدراكنا أن هذه الأزمات متداخلة ومترابطة وأنها جميعاً أعراض مختلفة لداء واحد، ومن ثم يجب أن نتحرك على طريق الحل الشامل والتغيير الأشمل والبحث عن المشروع الوطني الجديد إذا ما أردنا أن نحافظ على هذا الوطن موحداً ومتطوراً أو نامياً. لقد أصبح الخيار أمامنا واضحاً: هذا.. أو الطوفان!