تحولات من منظور ثقافي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حسن مدن
يمكن تتبع مسار التحولات الاجتماعية السريعة في بلدان الخليج خلال العقود الماضية، ليس من خلال منظور الاقتصاد السياسي وحده، خاصة لجهة التركيز على الآثار الحاسمة لاستخراج وصناعة وتسويق النفط في تلك التحولات، وإنما من خلال حقل برهن على خصوبته أيضاً في رصد وتحليل ما تشهده المجتمعات من تغيرات، وهو حقل علم اجتماع الثقافة الذي لا يُعنى برصد مصادر تكوين ثقافة المجتمع والنخبة الثقافية فيه فحسب، بل يشمل التفاعل المتبادل بين الثقافة وهذه التحولات، وتأثير كل منهما في الآخر . ثمة وفرة في الدراسات النقدية التطبيقية على النصوص الإبداعية الجديدة في مجالات الشعر والقصة القصيرة والرواية قام بها نقاد من أبناء المنطقة، وفي أغلب الأحيان نقاد من البلدان العربية الشقيقة، وليس أدل على ذلك من حجم الدراسات النقدية المكتوبة عن الأدب الجديد في دولة الإمارات وسلطنة عمان، على سبيل المثال، لكن يلاحظ أن أغلبية الدراسات النقدية إما أنها اهتمت بالجوانب التقنية في هذه الأعمال الأدبية، أي دراستها كعوالم إبداعية مستقلة عن دلالاتها الاجتماعية والتاريخية، وإما أنها بالغت في الإسقاط السياسي الاجتماعي لهذه النصوص، من دون أن تتنبه كفاية إلى النظر إليها بصفتها إبداعاً . لكن الحقل الغائب أو المُغيّب في هذا المجال هو ذاك الذي نعتناه بrdquo;علم اجتماع الثقافةrdquo; التي تذكرنا بها بعض الدراسات الجادة التي صدرت في بلدان المغرب العربي (الطاهر لبيب من تونس ومحمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي من المغرب وسواهم)، حين يصبح المطلوب رؤية الحركة الثقافية رؤية شاملة في تجلياتها المختلفة، بوصفها مظهراً من مظاهر المجتمع المدني في تعبيراته الرمزية، وعاكساً لأشكال ومظاهر الوعي الاجتماعي والاتجاهات الفكرية والسياسية في المجتمع في سيرورته ولحظات تحوله من حال إلى حال، وليس من مدخل مؤثر وعميق كدراسة مصادر تكوين المثقف المحلي وسيلة لولوج هذا الحقل .
والواقع أن ثمة دراسات خليجية مهمة في هذا السياق، ويمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى بعض مؤلفات الراحل خلدون النقيب ومحمد الرميحي من الكويت، وإبراهيم غلوم وباقر النجار من البحرين، ومثلهم دارسين مثابرين من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، ولكن يظل أن هذا الموضوع ما زال بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتعمق والتفصيل، باستخدام المناهج الحديثة في البحث، خاصة منها تلك التي تُعنى بدراسة ثقافة ما بعد الكولونيالية، للوقوف على التعبيرات والرموز الثقافية في دولنا التي عُزلت عن محيطها العربي على مدار عقود طويلة بحكم الهيمنة الأجنبية عليها، والتي كرست عزلة هذه المنطقة، وأمعنت في تمزيق أوصالها، منعاً لتبلور هوية وطنية جامعة . لذا ليس غريباً أن يشكل الانشغال بموضوع الهوية مرتكزاً جديداً في اهتمامات الجيل المثقف في مرحلة ما بعد الاستقلال في دول الخليج العربي، حيث كان على الهوية الوطنية أن تفصح عن نفسها، في مجتمع وجد نفسه، فجأة، يتحول دفعة واحدة في كل شيء: في الاقتصاد وفي التعليم وفي الثقافة وفي أنماط السلوك، ولفهم ذلك يتطلب الانصراف نحو دراسات جادة بغية التحليل العميق للتحولات الثقافية التي على ما لها من استقلالية، تظل غير منقطعة الجذور والتفاعل مع مجمل الحراك السياسي والاجتماعي .