المحكمة الدستورية.. وضغط الضرورة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله بشارة
خرج وزير الاعلام الكويتي الشيخ محمد عبدالله المبارك الصباح الى وسائل الاعلام المحلية والدولية مساء الخميس، ليعلن احالة الحكومة قانون الدوائر الخمس الى المحكمة الدستورية مضيفا ان مجلس الوزراء قرر تكليف "الفتوى" اعداد الطعن في هذا القانون وتقديمه الى المحكمة الدستورية قبل نهاية الأسبوع المقبل، ويستطرد الوزير المكلف بالتواصل الاعلامي والسياسي بأن قرار الحكومة جاء بعد اجتماع الفقهاء والخبراء الدستوريين على عدم دستورية النظام الانتخابي الحالي، مبينا أنها اتخذت القرار بعد ان استمعت اللجنة القانونية الى أراء أربع خبراء من كبار الدستوريين خارج اطار الحكومة وأجمعوا على عدم دستورية المادة الخاصة بتوزيع الناخبين في الدوائر.
وجاء قرار الحكومة بعد يوم واحد من تجمع "حدس" في ديوان النائب السابق والمبتسم دائما د.ناصر الصانع حول غبقة رمضانية لم تنته بروحانيات رمضان ولم تتشرب بمنابع التسامح الرمضانية حيث لم يتردد أفراد كتيبة الأغلبية البرلمانية من اطلاق الصواريخ المحمولة بالتهديد والوعيد والاعداد لمعارك قادمة ضد الحكومة المستكينة.
يبدأ النائب "الحربش" انذاره بأن النازلين الى الشارع سيصعدون مطالبهم بما يفوق عقدة الدوائر الخمس، ويسانده في تصريحاته العضو الآخر "فلاح الصواغ" ولا يفوت النائب مسلم البراك تلك الاطلالة الاعلامية لتصدر كلماته محشوة بالويل والثبور من خطورة الامور، وينتهي الحفل بختامية محبوكة لصاحب الديوان "ناصر الصانع" الذي لم يشذ عن رفاقه في التحذير من مؤشرات تصادمية قادمة.
كل ذلك يتم اخراجه في حضور سمو رئيس الوزراء الشيخ جابر المبارك الذي لم تفارقه ابتساماته وبحضور الرئيس جاسم الخرافي الذي جاء من لندن ليشرف على الختامية البائسة لمجلس عام 2009 ونعيه ودفنه بلا معزين وبلا طابور عزاء.
لم يكن هناك بديل آخر للحكومة لتجاوز المأزق الدستوري، ولم تقصر الحكومة في البحث عن البدائل المعقولة والمقبولة لتقديم مقترحات تنهي التخندق السياسي المدمر، وأحسنت الحكومة في تفضيلها المرفأ القانوني في بحثها عن حلول حيث انها لم تخرج عن المظلة الديموقراطية في خياراتها وتمسكت بإصرارها على ان يكون الرأي صادرا من الحضن الفقهي القانوني، وأحسنت أيضا بتجاهلها الإنذارات المتصاعدة من مجموعة الأغلبية التي تمسكت بموقف اللامعقول في شروطها وفي طلبها اعادة الحياة الى برلمان 2012، وبنفس التركيبة وبنفس خريطة التوزيع على ان تعود هذه الأغلبية لتقرر وفق مزاجها خطة المستقبل لتوزيع الدوائر وتحدد عدد المختارين من المرشحين.
العودة الى ما كان عليه الوضع ورغم تحذيرات القانونيين ورغم ما طرحته المحكمة الدستورية من تبريرات ومستندات قانونية في إلغائها لبرلمان الأغلبية لعدم دستوريته، لا يخلو هذا الطلب من الاستسلام للأنانية الانتهازية التي تتمسك بها الأغلبية لتبقى متسيدة المجلس تمرح وتسرح على أهوائها، تخيط وتفصل قواعد انتخابات المستقبل على مزاجها ووفق مصالحها.
ومن الواضح ان الخوف من احتمالات الفشل عامل بارز في حوارات الاغلبية الاعلامية والصحافية وفي منتدياتها وفي الاصرار على سحب الكويت الى ساحات التأزم واستفزاز السلطة وتحديها واستمرارها في اثارة الجماهير وفق برنامج تحريضي للتضييق على ارادة الحكم وتخويفه بالتجمعات الجماهيرية التي يلوح بها الاعضاء لاسيما نجوم الأغلبية مثل النائب مسلم البراك والنائب "الحربش" مع تصريحات اضافية مملوءة بالبهارات الحادة والمستفزة من الرئيس السعدون.
ومرة أخرى نتحدث وبكل صراحة بأن من يريد اصدار حكم على أداء الأغلبية في البرلمان السابق (2012) سيلاحظ وبشكل ملفت للنظر ضعف الأداء النيابي العلني لهذه الأغلبية التي، ومرة أخرى وبكل صراحة، تفتقر الى كوادر سياسية قوية ومحنكة تقدم البديل الفكري والمقنع، بدلا من تكرار ممل عن "اخفاقات الحكومة التعسة" كما نلاحظ بأن الأغلبية لم تكن أيضا رفيقا وديا للحكومة وذلك بدعمها في تأدية دورها التنفيذي لبرامجها في التنمية وفي ادارتها لشؤون الدولة، وانما وجدت أمامها كتلة الأغلبية تمارس نهج المواجهات الذي يتميز بالصراخ العالي والتهديد المبطن وبأسلوب لا يكلف هذه الكتلة ضريبة بل بالعكس وجدت هذه الأغلبية فيه أسلوبا مريحا اعلاميا واجتماعيا وله مردود في توفير التسهيلات التي تذعن فيها الحكومة لمن يصرخ في وجهها علنا ويتحذلق لها سرا..
ونقول بإيجاز بأن الأغلبية وخلال عملها البرلماني، لم تساهم في تقديم مقترحات وأفكار بناءة تقرب الطرفين (الحكومة والأغلبية) في شراكة بناء وطن، ولم تعرض المساعدة في التدبير في ازالة العقبات التي تحول دون تنفيذ برامج الحكومة، ولم تظهر دعما لجهد الحكومة لتحقيق الأهداف الوطنية لاسيما في المشاريع الكبرى.
ليس من المناسب ان تتمحور مواقف المعارضة في الاصرار على عودة البرلمان السابق، فالحجة ضعيفة في ذلك الاصرار، والانانية بارزة في ثناياه، وادعاء العفة السياسية ونظافة النوايا في الاسترسال في المواجهة من أجل احياء البرلمان الميت لا يضيف شيئا الى رصيد المعارضة وانما يضرها في اخراجها كمجموعة متعطشة للنفوذ والمزايا ولي ذراع الحكومة الضعيف من أجل ان تعود الى الساحة لتدير أمور الوطن كما تريد..
ونقول أيضا بأن التهديد بالنزول الى ساحة الارادة أو الى أي مكان يتعارض تماما مع ادعاء الأغلبية بالحرص على مصالح الكويت وعلى أمنها وسلامتها واستقرارها، ويعرف الأعضاء من الأغلبية بأن شعب الكويت بكل طوائفه وبكل مشاربه وبكل فئاته يتمسك بالاستقرار ويرفض الفوضوية ويعترض على حملات التحريض التي تتبناها الأغلبية لاضعاف نظام الحكم وتلويث سمعته والتطاول على قياداته، ويعرف أعضاء الأغلبية أيضا بأن شعب الكويت يدرك ويعي مخاطر الانزلاق الى الفوضى العارمة، ولا تستهويه اطروحات المواجهة التي تهدف اليها هذه الأغلبية.
ونردد بأن الكويت لها قانون يتسيد الجميع، ولها دستور يلتزم به الجميع، ولها شعب يتمسك بوطنه بكل ما فيه من خشونة وغلاظة، معتزا بتاريخه في التعايش مع أهوال البحر وفظاعة الصحراء، ولن يستمع الى أصوات تدعو الى الخراب..
مع الأسف لم تنجح حياة الكويت البرلمانية الممتدة منذ نصف قرن في انتاج شخصيات سياسية بهامات عالية تحمل معها هموم الوطن وتملك الكياسة في بناء حوارات تقوم على تبادلية الثقة بين النظام السياسي وبينها، تودي الدور الذي كان من نصيب الشخصيات الفذة التي رافقت الحياة البرلمانية في بدايتها، وكانت كوكبة مضيئة في فكرها ونزاهتها ومقامها، قادها المرحوم عبدالعزيز الصقر بالعلو الشامخ، وما نراه الآن من عطاء النواب يظل في حدود البحث عن خدمات ترضي الناخب ومخالفات قانونية وتدخلات في ادارة الدولة وتجاوزات على حقوق السلطة التنفيذية، وهو ما يشكل ترابط المصالح في العلاقات بين النائب والناخب، والعبرة هنا في اعادة التوافق بين بنود الدستور المرتفعة في معانيها والجليلة في أهدافها وبين سلوكيات الأعضاء وفي تجاوزاتهم للقانون وتعدياتهم على مواد الدستور، هذا هو التحدي الجوهري لحياة الكويت البرلمانية.
ولعل الأزمة الحالية هي مثال صارخ على التباعد بين النص وبين السلوكيات، فبدلا من احترام الدستور، نصا وروحا، ومراعاة توجهاته البناءة، تصر الأغلبية البرلمانية على اعادة خريطة سياسية تقول عنها المحكمة الدستورية بأنها غير دستورية وغير شرعية.
وهنا أيضا مسؤولية الحكومة في الاصرار على ازالة المفارقات بين النصوص والسلوكيات، بالتمسك بالدستور واستنهاض همة شعب الكويت من أجل افشال حملات التحريض المدمرة، والدعوة للالتفاف حول الدستور وحماية مبادئه، والاعتراض على سلوكيات المخالفين من النواب وفضح القوى التي تتواطأ مع بعضها لاغتيال الدستور نصا وروحا.
أعتقد بأننا نقترب من زمن ليس بعيدا يطالب فيه شعب الكويت بوضع لائحة اصلاحات Reforms دستورية، تخرج الكويت من المأزق المستمر وتوفر للحياة البرلمانية سلاسة في المسار واطمئنانا في الاستقرار..
ونقدر ظروف الحكومة في خياراتها الشرعية في الذهاب الى المحكمة الدستورية، ونعرف بأن للضرورة تقديرات وأحكاماً، ويظل لجوؤها الى المحكمة شرعيا لم يخرج عن أحضان الدستور..