مصر وتركيا... الدين والعلمانية والبراجماتية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حميد المنصوري
حمل الإسلام السياسي في تركيا، عبر حزب "العدالة والتنمية" قوة ناعمة أثرت على الوطن العربي وأحزابهِ السياسية، فبعد أن استطاع حزب "العدالة والتنمية" التركي تحقيق نجاحات سياسية واقتصادية وقانونية على المستوى القطري والإقليمي والدولي، أصبح مصدر إلهام للأحزاب الإسلامية في الأقطار العربية، ففي المغرب وتونس، انتشر أخذ اسم "حزب العدالة والتنمية"، أما جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر فقد أسست حزباً سياسيّاً يحمل اسماً قريباً من التركي "حزب الحرية والعدالةrdquo;. أخذ الاسم لا يعني أنها أي الأحزاب أخذت التجربة التركية في كتب تحملها الأحزاب الإسلامية لتقرأ، وإن قرأت هل ستصل لأبعاد التجربة التركية وحقيقتها؟ حقاً للسياسة والشرعية أحكام وأسس وأهداف تكون مدفوعة بالبراجماتية والثقافة والدين والحرية والأمن والقدرات المادية وعقائد وأيديولوجيات وأفكار قادة القرار السياسي والاقتصادي، فقادة حزب "العدالة والتنمية" التركي ينظرون إلى حزبهم بأنه حزب "محافظ ليبرالي"، ومعنى المحافظة هنا مطاطي إلى حد كبير بين الثقافة الشرقية والتركية والدين والجغرافيا والتاريخ وأيضاً مكتسبات العلمانية التي بنت الجمهورية التركية بعد دولة الخلافة، أما الليبرالية فهي تحمل في طياتها المدنية والحرية والقانون وهي في أحسن تعبير لها تقليص القيود الاجتماعية والثقافية والعقائدية في سبيل حرية الفرد والمجتمع، وهي أيضاً لدى العموم الدولة الدستورية التي تحقق العدالة والحرية والانتخابات وتحافظ على حقوق الإنسان. والليبرالية في السياسة الخارجية "كما يعمل بها قادة حزب العدالة والتنمية التركي" تقوم على تصور النظام العالمي على أساس الربح للجميع، وكأنه لعبة يلعبها الجميع ويربح فيها الجميع، وخاصة عبر الوسائل الاقتصادية (وهذا مايسمى بالليبرالية الجديدة)، وهذا واضح للعيان بأن تركيا فتحت علاقاتها وسفاراتها مع دول كثيرة وتخلت عن دورها السابق الذي كان به شبه جمود في العلاقات الخارجية. حقيقةً، إلى حد كبير جداً، الدول تسعى إلى مصالحها الخاصة وتسعى إلى اكتساب المزيد من القوة الاقتصادية والصناعية والعسكرية والأمنية والسياسية للعب دور مهم في العلاقات الدولية في حلقات الصراع والتعاون والتنافس. إضافة إلى هذا، إذا كانت عوامل أخرى كالبعد الديني والثقافي والجغرافي يصب في مصلحة تحقيق المصالح القُطْرية التي تشترك مع أقطار أخرى فهذا مرحب به في تطوير وتقوية الدولة على أسس من تلك العوامل، وهذا ما يحدث مع حزب "العدالة والتنمية" التركي. تصور معي تضارب ما يسمى بالمحافظ الليبرالي، إذا كان رجل ليبرالي يقابل محافظاً وسعى كل منهما إلى مصالحهِ الخاصة بنهج براجماتي "أي المصالح بدون أخلاق وقيم"سوف نستهجن أفعال المحافظ وننتقدها بقوة جداً بعكس الليبرالي. لكن في تصور آخر لهذا التناقض فقد يمثل أو يعكس الجمال التركي بين كونه محافظاً وليبرالياً عبر حزب "العدالة والتنمية".
مصر اليوم بقيادة مرسي تتناقض وتبتعد عن التجربة التركية في مستويات ومحاور عدة وهي بذلك تفقد البوصلة التي تقود إلى مصالحها وبعدها التاريخي والجغرافي والسياسي. فعلى المستوى الداخلي، وصول محمد مرسي لمنصب رئاسة الجمهوريّة قاد إلى مواجهة خشنة مع المؤسسة العسكريّة وذراعها السلطة القضائية "المحكمة الدستوريّة"، ولم يكن كحزب "العدالة والتنمية" التركي الذي دخل وتوغل في مؤسسات الدول بنعومة، كما أن حكومة أردوغان دخلت في مواجهة مع الجيش والمحكمة الدستوريّة بعد وصولها للحكم بست سنوات. لا شك أن تاريخ الدولة التركية يختلف عن مصر في توفر العلمانية كقاعدة أساسية للدولة، كما أن الصدام بين الإسلاميين المصريين والأنظمة العسكرية من عهد عبدالناصر إلى مبارك كان شديداً جداً، بعكس تركيا حيث كان أربكان "وهو أول من أسس حزب إسلامي حزب النظام الوطني1970" مندمجاً في الدولة العلمانيّة، وشارك كل من حكومة بولند أجاويد، وتانسو تشللر، كما لعبت المؤسسة العسكرية التركية الدور الأساسي في إبعاد "أربكان" حفاظاً على علمانية الدولة، والتي تأتي أيضاً من خلال حظر أتاتورك عام 1925 للأحزاب الإسلامية. والنتيجة في الاختلاف بأن الإسلاميين في مصر لعبوا دور المعارضة بعكس تركيا التي شاركت في العملية السياسية وذلك مرده الاختلاف بين النظام العسكري والعلماني.
على المستوى الإقليمي والدولي، وصول التيار الإسلامي المصري إلى الرئاسة خلق نظرة شك لدى الدول العربية المهمة سياسياً واقتصادياً، وذلك لأن هذا التيار له جماعات متعددة تمدهُ بالولاء عبر شبكة خاصة بهم، أي أن هناك تدخلاً مباشراً في شؤون بعض الدول العربية وهو موجود تاريخياً منذ أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم. كما أن هناك نظرة ضبابية حول مستقبل هذا التيار في مصر، فهل هو مجذوب ومفتون بالتجربة الإيرانية الملالية في تكوين الميليشيات والسياسة المذهبية العابرة للقومية، أم التركية المحافظة الليبرالية؟ وهل يختال العقلية المصرية الإسلامية أفكار الخلافة وتطبيق الشرعية الإسلامية على حساب الحداثة والمدنية، أي هل الفكر يعبر عن إسلامي تقليدي أم حداثي؟ أجل هناك تأخر مصري في إعادة وصياغة دورها في الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة. هذا على عكس حزب "العدالة والتنمية" التركي، والذي استطاع تحقيق قفزات اقتصادية وتطوير علاقاتهِ مع الأقطار العربية وغير العربية حيث صنع لنفسه فلكاً في العلاقات الدولية الإقليمية، وكما هو واضح للعيان هناك مصالح مشتركة ومكاسب اقتصادية وسياسية وأمنية مع دول في الشرق الأوسط، وأصبح يزاحم الدول الأوروبية ودورها في الشرق الأوسط، وهذا انعكس على دور تركيا الدولي. فتركيا لها طموحات نيوعثمانيّة عبر علاقاتها الإقليميّة والدوليّة، أي أن تركيا لا ترى العرب في إطار قومي مانع لبروز الدول الغير عربية في العلاقات والقضايا العربية والإسلامية، كما أنها "تركيا" تُلبس نفسها طربوشاً جديداً يحمل بعدها التاريخي والثقافي والجغرافي، وأيضاً يحمل طموحها في الازدهار الاقتصادي وأخذ دورها كلاعب مهم في ساحة الشرق الأوسط، كما أن النيوعثمانية تعكس تخلي تركيا عن أدوار سياسية وأمنية معينة كانت تفرض من خلال النظام الدولي والدول الكبرى وطموح انضمامها إلى أوروبا حيث أصبحت تلك الأدوار لا تساعد على بروز الدولة التركية كدولة قوية وفاعلة. في مقابل ذلك، يحملنا الشك بأن إسلاميي مصر سوف يعيدون أو يشكلون العلاقات المصرية على المستويين الإقليمي والدولي من خلال عقيدتهم التقليدية التي تبتعد عن تحقيق المصالح الوطنيّة في رفع الاقتصاد وتحقيق الأمن، كما أن مصر مطالبة بتحصين "وليس تحسين" علاقاتها العربية من التوجهات التي لا تخدم مصالحها ومصالح العالم العربي.
أبواب جديدة تفتح لتركيا من خلال حزب "العدالة والتنمية" لإعادة ليس دور تركيا السياسي وتحقيق الازدهار الاقتصادي وحسب، بل لإعادة الهوية التركية في الشرق والغرب من جديد، فقادة حزب "العدالة والتنمية" التركي لا يلعبون لتحويل تركيا دولة إسلامية بعيداً عن العلمانية بل يرون العلمانية مدنية أو بالأحرى يرون في الإسلام مدنية وحداثة، كما أنهم يبنون تركيا عبر المنظور "النيوعثماني، والذي يمثل أخذ أبعاد دينية ومدنية وجغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية تمدهم بالشرعية الداخلية وتحقق أهداف ومصالح الجمهورية التركية المتعددة والمختلفة. أما في مصر، فالأبواب أي الخيارات المصرية بين النموذج الإيراني الملالي والتركي الأردوغاني تلاعبها رياح أهواء القادة الإسلاميين، ومنها محاولة استنساخ نموذج "حزب الله"، كـ"ميليشيا" في سيناء مصر للجهاد ضد إسرائيل وهو محال تحقيقهُ في دولة كمصر.