الجريمة واللاعقاب" في القضاءين الأمريكي و"الإسرائيلي"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عمر عدس
في وقت واحد تقريباً، أعلنت السلطات الأمريكية أنها لن توجه أي اتهامات جنائية إلى الجنود الذين بالوا على جثث أفراد من طالبان، والجنود الذين أحرقوا نسخاً من القرآن الكريم، وبرّأت محكمة ldquo;إسرائيليةrdquo;، حكومة ldquo;إسرائيلrdquo; من أي مسؤولية عن قتل راشيل كوري، الناشطة الأمريكية، التي سُحقت حتى الموت، تحت شفرة جرافة ldquo;إسرائيليةrdquo; مسلحة، عام 2003 .
في صحيفة ldquo;الغارديانrdquo; (28-8-2012) كتب غلين غرينوالد، (وهو كاتب زاوية في الصحيفة، متخصص في قضايا الحريات المدنية، والأمن القومي الأمريكي)، أعلن الجيش الأمريكي يوم الاثنين، 27-8 أن أي اتهامات جنائية لن توجه إلى جنود مشاة البحرية الأمريكية، في أفغانستان، الذين صوّروا أنفسهم بالفيديو وهم يبولون على جثث لمقاتلين من حركة طالبان . كما أعلن الجيش أنه لن يوجه أي تهم جنائية للجنود الأمريكيين الذين حاولوا حرق نحو 500 نسخة من القرآن الكريم، في فبراير/ شباط، على الرغم من تحذيرات لهم من أنهم يرتكبون خطأ جسيماً .
وبذلك يتجاهل الجيش الأمريكي- كالعادة- مطالبات المسؤولين الأفغان بإجراء محاسبة قانونية للجنود الأجانب في بلادهم، عما يرتكبون من أفعال هدّامة . وبدلاً من ذلك، فرضت الولايات المتحدة على الجنود في كلتا القضيتين، ldquo;إجراءات تأديبيةrdquo;، قد تشتمل على ldquo;توجيه رسائل توبيخ، أوتخفيض رُتب، أوبعض الخصم من الراتب، أوتقييد الدخول إلى قواعد عسكرية، أوتأدية واجبات إضافية أو مزيج من ذلكrdquo; . وكان كلا الحادثين قد أثار احتجاجات وأعمال شغب شديدة خلفت عشرات القتلى، في فبراير من هذا العام .
وفي موازاة ذلك، رفض قاضٍ ldquo;إسرائيليrdquo; قضية مرفوعة على الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; من قِبل عائلة راشيل كوري، الطالبة الجامعية الأمريكية المناصِرة للقضية الفلسطينية، التي كانت قد سحقتها جرافة عسكرية ldquo;إسرائيليةrdquo; عام 2003 أثناء احتجاجها على هدم منزل في غزة، وقد قالت سيندي كوري، والدة راشيل، عندما سمعت رفض المحكمة ldquo;الإسرائيليةrdquo; للدعوى: ldquo;إن هذا ليوم مشؤوم، لا لعائلتنا وحسب، بل لحقوق الإنسان، وللبشرية، ولحكم القانون، ولدولة ldquo;إسرائيلrdquo; أيضاًrdquo; .
وعلى الرغم من أن راشيل كوري كانت ترتدي عندما سحقتها الجرافة، سترة برتقالية لامعة، حكم القاضي اوديد غيرشون، ضمن قرار يتألف من 62 صفحة، بأن سائق الجرافة لم يَرَها، وبذلك يكون موتها حادثاً عرضياً . ومضى القاضي ليحمّل الضحية مسؤولية مقتلها، قائلاً: إنها، خلافاً لما ldquo;كان سيفعله أي شخص راشدrdquo;، ldquo;اختارت أن تضع نفسها في معرض الخطرrdquo; بمحاولة التصدي لrdquo;نشاط عسكري هدفه منع النشاط الإرهابيrdquo; .
ويقول الكاتب: إن السمة المشتركة بين هذه الأحداث الثلاثة، واضحة للعيان: وهي حَرف النظام القضائي وحكم القانون عن واجبيْهما، وتحويلهما إلى أداء لإضفاء الشرعية، حتى على أشدّ أعمال الدولة سلبية، وتوقيع العقوبة الصارمة على كل مَن يعارضها .
ويضيف الكاتب، إن الولايات المتحدة، والمفكرين الموالين لها في بيوت الخبرة ومراكز الأبحاث، لا يكفون عن مطالبة الدول الأخرى برعاية ldquo;استقلال القضاءrdquo;، باعتبار ذلك أحد العناصر اللازمة للعيش في ظل القانون . ولكنّ الأحكام الأخيرة، تبرهن مرة أخرى، على أن النظام القضائي في الولايات المتحدة، وفي حليفتها الرئيسة في الشرق الأوسط، أبعد ما يكون عن ldquo;الاستقلالrdquo;، وأن وظيفته الأساسية، حماية ممثلي الحكومة من المحاسبة .
فالجيش الأمريكي في العادة يفرض على جنوده ldquo;عقوباتrdquo; خفيفة إلى درجة مزرية، حتى حين يرتكبون أسوأ الفظائع الشائنة . فالقتل الوحشي لدزينتين من المدنيين في مدينة الحديثة العراقية، والتعذيب الوحشي المفضي إلى الموت، لمحتجَزين أفغان، أدّيا في أسوأ الأحوال، إلى أحكام بسجن القتلة مدةً قصيرة إلى درجة مذهلة، ولم يتجاوز في العادة رسائل التوبيخ . ويقارن الكاتب بين هذا الزجر الخفيف الذي يوجه إلى جنود الاحتلال على مضض، حين يرتكبون جرائم وحشية، وبين ldquo;المعاملة القاسية وغير الإنسانيةrdquo;، التي ذكر تحقيق للأمم المتحدة، أن الحكومة الأمريكية تعامل بها برادلي مانينغ، (الجندي المتهم بتسريب وثائق ويكيليكس)، وذلك قبل أن يُدان بأي شيء .
فقد ظل مانينغ قابعاً في السجن منذ أكثر من سنتين، من دون إدانته بأي جريمة- وتلك مدة تزيد حتى الآن، على أي حكم صَدَرَ على مقترفي التجاوزات القاتلة في العراق وأفغانستان . وهو يواجه عقوبة السجن مدى الحياة، في الثالثة والعشرين من العمر، على ldquo;جريمةrdquo; مزعومة، مفادها أنه كشف للعالم أدلة دامغة على الفساد، والخداع وانتهاك القوانين، مما تمارسه الفئات المهيمنة في العالم، وقد ساعدت تلك الأدلة في إحباط جهود أوباما التي كانت ترمي إلى إبقاء القوات الأمريكية في العراق، ولعبت دوراً أساسياً في إطلاق شرارة الربيع العربي، حتى باعتراف أقسى المنتقدين لموقع ويكيليكس .
ومما يلفت النظر، أن أوّل كشفٍ نُسِب إلى مانينغ- وهو شريط الفيديو الذي يصور طائرة عمودية من طراز اباتشي، تطلق النار على صحافيين عزل من وكالة رويترز، ثم على رجال الإنقاذ الذي جاؤوا لمساعدة الجرحى، ومن بينهم طفلان صغيران- لم يؤدّ إلى محاسبة أحد، حيث برّأ الجيش الأمريكي كل مَن له علاقة بالقضية . وبدلاً من ذلك، كان مانينغ، الشخصُ المتهمُ بفضح هذه الجرائم، هو الذي عوقب باعتباره المجرمَ الحقيقي .
وهنا تكمن الوظيفة الحقيقية لجهاز القضاء الأمريكي، التي تتجلى المرة تلو الأخرى . وهي حماية كبار المسؤولين من المحاسبة، حتى عن أشنع الجرائم، بينما ينزل أشد العقوبة بمَن يكشفون تلك الجرائم، أو يتخذون موقفاً إزاءها، وبذلك يردع أي معارضة قد تحدث في المستقبل، ويخيف مَن قد يفكرون بها .
ويمضي الكاتب قائلاً: هذه هي العقلية التي جعلت وزارة العدل في إدارة أوباما تحمي جميع المسؤولين في عهد بوش، من أي محاسبة عما ارتكبوه من جرائم التعذيب والملاحقة، بينما تشنّ حملة مقاضاة غير مسبوقة لمَن يفضحون الفساد .
وهي العقلية ذاتها التي جعلت جهاز القضاء الاتحادي الأمريكي لا يسمح لأحد من ضحايا مظالم ldquo;الحرب الأمريكية على الإرهابrdquo;- حتى ممن باتت الحكومة الأمريكية تعترف ببراءتهم التامة- بالنظر في قضيته في أي محكمة أمريكية بناء على معطياتها . ويتجلى الاستغلال ذاته للجهاز القضائي، في مهزلة قضية راشيل كوري . وكما كتب المراسل السابق لصحيفة ldquo;الغارديانrdquo; (والحالي لصحيفة واشنطن بوست)، كريس ماكغريل، فإن رفض هذه القضية ما هو إلا نتاج لrdquo;الحصانة المطلقة التي يتمتع بها الجنود ldquo;الإسرائيليونrdquo; بصرف النظر عمّن قتلوه أو في أية ظروفrdquo; . وذلك لأن المحاكم ldquo;الإسرائيليةrdquo;، مثلما المحاكم الأمريكية، تقبلت بإذعان الأسطورة التي تروجها كلتا الحكومتين، وهي أنّ كلّ مَن يعرقل إجراءات الحكومة إرهابي أو مُعين لإرهابي على الإرهاب، ينال ما يستحق، في حين أن إجراءات الدولة، لا يمكن إلا أن تكون شرعية، بصرف النظر عن وحشيتها .
وقد قالت سيندي كوري، والدة راشيل، بعد صدور الحكم، إن ldquo;إسرائيلrdquo; ldquo;استخدمت النظام القضائي لحماية جنودها وتوفير الحصانة لهمrdquo; . وبالفعل، فقد كان ldquo;التحقيقrdquo; ldquo;الإسرائيليrdquo; في مقتل كوري، تبرئة تستحق السخرية، إلى درجة أن السفير الأمريكي ذاته، قال لعائلة كوري في الأسبوع الماضي: إنه ldquo;لا يعتقد أن التحقيق العسكري ldquo;الإسرائيليrdquo; كان ldquo;تاماً، وموثوقاً وشفافاًrdquo;، كما كانت قد وعدت ldquo;إسرائيلrdquo;rdquo; .
ويقول الكاتب، إن كل ذلك، يبيّن ldquo;كيف غدا التكتم على الحقيقة في قتل الأبرياء، ومنهم كوري، جزءاً مهمّاً من استراتيجية البقاء، لما قد تُلحقه الحقيقة بمكانة الجيش من أضرار، لا في بقية دول العالم وحسب، بل بين ldquo;الإسرائيليينrdquo; أنفسهم أيضاًrdquo; . ويقول الكاتب، من المتوقع أن يقوم القابضون على زمام السلطة، باستغلالها لأغراض فاسدة تخدم مصالحهم الذاتية . ولهذا تقام مؤسسات مخصصة لضبط ذلك الاستغلال ومحاربته . وحكم القانون، والنظام القضائي المستقل اللازم لتطبيقه، جزء من تلك المؤسسات . ولكن هذا النظام القضائي- حاله حال المنافذ الإعلامية ومعظم المنابر الأكاديمية التابعة للمؤسسة- يفعل العكس الآن، فهو مجرد سلاح يُستخدَم لإضفاء الشرعية على جرائم الأقوياء، وسحق مَن يعارضونها .
والمساخر الثلاث، التي حدثت هذا الأسبوع في الولايات المتحدة وrdquo;إسرائيلrdquo;، لا تثير العجب، بل هي، على العكس، نواتج ثانوية لفئات تجند كل المؤسسات في خدمة الدفاع حتى عن أشنع مظالم الدولة .