أوباما ليس فاشلاً تماماً... عند أنصاره
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
راغدة درغام
تختلف، بالتأكيد، التوجهات الرئيسية للحزب الجمهوري الاميركي عن توجهات الحزب الديموقراطي العامة المعنية بالعلاقات الدولية والسياسات الخارجية لكن السياسة العريضة للولايات المتحدة تغلب على مَن يحكم البيت الأبيض. فالعلاقات مع الصين، مثلا، لن تختلف كثيراً في حال بقي الرئيس باراك أوباما في منصب الرئاسة أو في حال خسر المعركة الانتخابية لصالح الجمهوري ميت رومني. كذلك عملية الانسحاب من أفغانستان، مثال آخر. إنما هناك عناصر شخصية وطبيعة وعقلية الرجل التي تؤثر، حكماً، في النظرة السياسية الى روسيا مثلاً، أو الى إيران، أو الى الدور الأميركي في أماكن مثل سورية. هنا، تبدو الفوارق في مواقف المرشحين الى الرئاسة الأميركية. وأولى محطات الاختلافات تكمن في شراسة المعركة الانتخابية حول هوية الولايات المتحدة في هذه الحقبة من التاريخ.
تبدو أميركا متجهة نحو معركة نوعية بين اليمين واليسار. باراك أوباما قد تم تصنيفه من قِبَل الجمهوريين بأنه "يساري" يهدد بانعطافة خطيرة على مستقبل البلد إذا بقي في الرئاسة. ميت رومني اضطر ان يتوجه يميناً ليرضي الجمهوريين في أقصى اليمين الذين رفضوا دعمه باعتباره يعاني من "الاعتدال"، فسار بنفسه الى اليمين ودخل طرفاً في المعركة بين اليمين واليسار.
القاعدة الشعبية منقسمة حول عدة مواضيع أساسية في تحديد الهوية الأميركية. الأكثرية الساحقة من الديموقراطيين تريد لأميركا ان تكون "مسالمة" تحت أي ظرف كان وان تتجنب الحروب مهما كانت الأسباب الداعية لها. انها الأكثرية التي تعتبر نفسها المدافعة عن حقوق الإنسان ومبادئ التعايش لكنها مستعدة ان تغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان وتدمير مبادئ التعايش طالما يجنب ذلك دخول الولايات المتحدة طرفاً في النزاع. من هذا المنطلق، ان الأكثرية الديموقراطية باتت أكثر انعزالية من الجمهوريين الذين هم تقليدياً أرباب الانعزالية.
هناك في المؤسسة السياسية والفكرية من يعتبر الانعزالية في هذا المفترق من المسيرة الأميركية أسوأ استثمار لمستقبل الولايات المتحدة. ولذلك الإصرار على استمرار القيادة الأميركية في العالم. هؤلاء يقولون ان من البديهي ان يترتب على الولايات المتحدة اتخاذ مواقف صارمة أو اتخاذ إجراءات عسكرية، إذا كان لها أن تتمسك بموقع الاستفراد بالعظمة عالمياً. يقولون ان من البديهي ان تتوقف سياسة الإرضاء والترغيب التي اتسمت بها السياسة الخارجية للرئيس باراك أوباما لأنها فشلت، في رأيهم، مع أمثال الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والنظام في سورية، والقيادة الروسية.
المدافعون عن الرئيس الأميركي يقولون ان من السابق لأوانه اعتبار سياساته فاشلة، ويشيرون الى واقع تطويق الجمهورية الإسلامية الإيرانية اقتصادياً رغم استطاعتها فك العزلة الديبلوماسية الأسبوع الماضي عندما استضافت الرؤساء أثناء قمة عدم الانحياز. يقولون ان القيادة الإيرانية باتت ضعيفة مهما تظاهرت بالعكس، وانها لا مناص راحلة تدريجاً سوية مع حليفها في دمشق. رأى هؤلاء ان الانسياق الى الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على ضرورة انجرار الولايات المتحدة الى إجراءات عسكرية ضد مواقع إيرانية هي عين الخطر على المصالح الأميركية وهي خشبة الخلاص للنظام في طهران.
المعركة مع إيران آتية، في رأي الأكثرية، في أعقاب الانتخابات الرئاسية. انما هناك من يعتقد ان إسرائيل لم تقفل كلياً "النافذة" المتاحة لإجبار الولايات المتحدة على عمل عسكري قبل الانتخابات في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) لأنها لا تثق بأن باراك أوباما سينفذ تعهداته بمنع إيران من امتلاك السلاح النووي. لذلك يزداد الكلام العلني في اسرائيل عن صفقات بين الإدارة الأميركية والقيادة الإيرانية وراء الكواليس على حساب إسرائيل. انما هناك من يعتقد ان تلك التسريبات انما تعكس ذعر الإسرائيليين، وليس أكثر.
المعركة آتية، من وجهة نظر البعض - أو تمنياً منهم - بعد الانتخابات الرئاسية وذلك في مواجهة أميركية - إيرانية في الحضن السوري. فالحرب الأميركية على الأصولية الإسلامية التي ساهمت في صنعها في أفغانستان أواخر السبعينات ثم شنها في الحضن العراقي. هناك في الحضن العراقي هزم الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الإرهاب الأصولي وأبعده عن المدن الأميركية. هناك في تلك الحرب على الإرهاب نجح المحافظون الجدد في ترقية إيران الى لاعب إقليمي وعززوا أرضية المعركة الطائفية بين الشيعة والسنّة عبر ايهام حليف الأمر الواقع الجديد ان في وسعه إنشاء "الهلال الشيعي" القائم على التقسيم والممتد من شرق السعودية عبر عراق مقسَّم الى سورية الأسد ومنها الى "حزب الله" في لبنان كي ترتبط إيران بإسرائيل كحليفين لأميركا ضد الهيمنة السنية والأصولية المتطرفة.
اليوم، تبدو الولايات المتحدة في اتجاه معاكس لما تبنته بالأمس - ربما قد يقال بسبب توجهات الرئيس في السلطة انما الأرجح لأن تلك السياسة الاستراتيجية الثابتة البعيدة المدى تلك السياسة لما كان لها إطلاقاً النجاح لو لم تكن التربة الإسلامية متقبلة لها. ففي أواخر السبعينات كان التحالف الأميركي مع الأصولية السنّية في أفغانستان بالتزامن مع الثورة الإيرانية التي عززت موقع الحكم الديني الشيعي في إيران. ثم أتت الحراب العراقية - الإيرانية والتي كان العنصر الطائفي جزءاً كبيراً منها. بعد ذلك أتت حرب الإرهاب في العراق التي استفادت الجمهورية الإسلامية الإيرانية كثيراً منها. وها نحن اليوم لربما على أبواب حروب مذهبية إقليمية الى جانب ما يبدو وانه بوادر "حرب" أميركية - إيرانية ساحتها الشام.
الآتون من مؤتمر عدم الانحياز في طهران الذين اجتمعوا مع كبار القيادات الإيرانية يقولون ان تلك القيادات أوضحت لكل من يعنيه الأمر انها ماضية الى الأمام في دعمها النظام في دمشق بكل ما أوتي لها من قوة لأن تلك المعركة بالنسبة لها معركة مصيرية وجودية ومعركة بقاء. يقولون ان ثورة السوريين في رأي القيادات الإيرانية ليست سوى مؤامرة من "الشيطان الأميركي" الذي "جنَّد مرتزقة". يقولون ان طهران أوضحت ان المعركة على دمشق معركتها، وانها ستستثمر كل ما في وسعها من أجل إلحاق الهزيمة بأعداء النظام في دمشق.
القيادة الإيرانية لن تتراجع، وهي تراهن على وهن الآخرين. القيادة الروسية تشعر انها أوقعت نفسها في زاوية وهي غير قادرة على الخروج منها بلباقة لا تجعلها تبدو متراجعة أو ضعيفة. القيادة الصينية بدأت تستدرك عواقب انزلاقها الى معركة مع العالم الإسلامي إذا استمرت في سياساتها نحو سورية باسم التحالف الاستراتيجي بينها وبين روسيا، ولذلك تحدث وزير خارجيتها بلغة مختلفة هذا الأسبوع.
القيادة الأميركية تبدو مترددة، أقله في عهد باراك أوباما، إذ انها من جهة صامتة مثلاً على الانتهاكات الإيرانية لقرارات ملزمة لمجلس الأمن تمنعها من مد السلاح الى سورية هذه ورقة مهمة في أيادي الغرب قرر حتى الآن عدم استخدامها. والسبب هو الانتخابات الأميركية. انما هذا لا يعني ان المهادنة ستستمر في أعقاب الانتخابات. بل هناك من يؤكد ان الإدارة الأميركية قررت ان الطريق الى الاستقرار والاعتدال في منطقة الشرق الأوسط يتطلب القضاء على النفوذ والوجود الإيراني في دمشق، وان التوجه هو محاربة إيران في الشام وليس عبر الانجرار الى عمليات عسكرية مباشرة في إيران. وهؤلاء يقولون ان إدارة أوباما متأهبة إنما التنفيذ بعد الانتخابات.
الجمهوريون قد لا يقررون ان يكون رئيسهم أكثر تأهباً مما هو الرئيس الديموقراطي. فهناك أسس مشتركة بين الحزبين في فهمهما بأن معركة سورية لربما تطول في حرب استنزاف حتى بعد رحيل آل الأسد عن السلطة. لربما يكون ميت رومني أكثر حزماً وأكثر مواجهة مع روسيا في شأن دورها في سورية والأرجح انه سيكون أكثر عداء نحو إيران. انما هذا لا يعني ان إدارة رومني - في حال انتخابه - لديها العصا السحرية أو انها جاهزة للدخول في حرب مباشرة في سورية أو مع ايران، مهما صدر من مواقف راديكالية كذلك الأمر في اطار لغة الحرب الباردة مع روسيا.
بالنسبة لفلسطين وإسرائيل، واضح ان باراك أوباما دخل الرئاسة واثقاً من قدرته على حل نهائي لهذا النزاع وأنهى ولايته عاجزاً عن هذا الحل. واضح ان ميت رومني ليس في وارد حتى المحاولة التي قام بها باراك أوباما - وفشل - لأنه ليس مؤمناً بأسس الحل الذي يؤمن به باراك أوباما وإنما هو في وارد الدعم الأعمى لإسرائيل باعتبارها من وجهة نظره الحليف الوحيد للولايات المتحدة في المنطقة.
سجل فشل أوباما في تنفيذ وعوده يؤذيه تماماً لأنه سجل فشل. ميت رومني له سجل الهفوات. الناخب الأميركي سيدقق في السجلين ويقرر ايهما أقل خطراً على أميركا. مبدأ القيادة في عهد باراك أوباما انحسر، انما ليس لدى ميت رومني ما يكفي من دليل على القيادة. وهذا أمر آخر سيدقق فيه الناخب الأميركي. الاقتصاد أولاً، نعم. انما مستقبل الولايات المتحدة عالمياً يقع في صلب المعركة على هوية أميركا، وللأسف ان النقاش ينصب الآن حصراً في معادلة بائسة بين ما يسمى اليمين واليسار.
يبقى ان في وسع باراك أوباما ان يقول للأميركيين ان سجله ليس الفشل وانما يحفل بإنجازات منها انه خلّص أميركا من حروب وقتل أسامة بن لادن وركز على نزع السلاح وأقام علاقة مهمة مع الصين وتجنب المواجهة مع روسيا، استخدم الديبلوماسية الناعمة للعزل بدلاً من الديبلوماسية الخشنة التي تستفز الى مواجهات وساهم في نشر القيم الأميركية القائمة على دعم الديموقرطية وطموحات الشعوب كما في "الربيع العربي" في المنطقة العربية. صحيح ان جورج دبليو بوش زرع البذور لمعظم هذه الإنجازات، لكن باراك أوباما نفذها.
يبقى أمر آخر وهو الرئيس السابق بيل كلينتون والذي بات اليوم الحليف الضروري للرجل الذي كان الكره سيد العلاقات بينهما باراك أوباما. آل بوش انحسروا للمرحلة الراهنة. آل كلينتون في سدة القيادة. أما باراك أوباما وميت رومني فإنهما ليسا في خانة "آل" لكنهما حقاً شهادة على ديموقراطية جميلة في الولايات المتحدة الأميركية. كلاهما ينتمي الى أقلية كانت بالأمس مرفوضة وهذا ما يجعل أميركا جميلة رغم متاهات تقتحمها.