25 يناير: الخديو ينتقم من عبد الناصر؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مأمون فندي
الذي هزم مبارك وأجبره على التنحي لم يكن الـ"فيس بوك" بل كان الخديو إسماعيل الذي حكم مصر في الفترة ما بين 1863 إلى 1879. فهل من المعقول أن ثورة 25 يناير في مصر، هي انتقام الخديو إسماعيل من نظام عبد الناصر الذي أنهى حكم أسرة محمد على في مصر؟ يبدو السؤال غريبا لأول وهلة فما علاقة الخديو إسماعيل بثورة الخامس والعشرين من يناير؟ لكن لو نظرنا إلى ثورة يناير من المنظور العمراني والذي يشمل العمارة وتخطيط المدن معا، نكتشف وبيسر، أن الثورة كانت معركة بين نموذجين للعمران، معركة بين عمران الحرية المتمثل في مصر إسماعيل باشا وميادينها الواسعة التي تسمح لتجمهر البشر وبين مصر الديكتاتورية المتمثلة في تخطيط المدن الضاغط في عهد العسكر أو الضباط الأحرار ومن تبعهم، والمتمثلة في عمران القشلاق أو المعسكر على غرار رومانيا الشيوعية، بشوارعه الضيقة ومساحاته الخانقة. لم تقم الثورة في كل مصر بل قامت الثورة في مصر إسماعيل باشا فقط ولا سواها. لم تقم الثورة في مدن الصعيد ولا في قاهرة العسكر المتمثلة في الأحياء العشوائية مثل إمبابة والوراق، على الرغم من فقر هذه الأماكن وظلم نظام يوليو لها إلا أنها لم تشهد ثورات. ببساطة لأن هذه الأماكن لم يكن بها ميدان واحد يسمح بتجمع أكثر من عشرين نفرا. تلك الأماكن التي لا تتمتع بتخطيط شبيه بما فعله المعماري الفرنسي أوسمان بوسط البلد، ونحن هنا لا نتحدث فقط عن إمبابة وعشوائيات الجيزة، بل أيضا من يقارن مصر الجديدة التي رسمها البارون امبان مع مدينة نصر التي صنعها العسكر أو حتى مدن السادات كالعاشر من رمضان و6 أكتوبر، يدرك الفرق بين التخطيط العمراني الذي تكون الحرية مركزية فيه وبين التخطيط العشوائي الذي يمثل حاضنة الديكتاتورية. خارج مساحة وسط البلد التي تشبه باريس، أضحت الضواحي الملاصقة لمصر إسماعيل باشا ضحية للتقسيم الخانق لمن جاءوا بعده وأصروا على تخطيط مدن ضيقة الشوارع وبلا ميادين وضد الحرية. التخطيط العشوائي الخانق للمدن لم يترك ميدانا واحدا يسمح للتجمهر البشري. ولهذا وعلى الرغم من غضب الصعايدة مثلا من ظلم الدولة لم يجدوا ميدانا واحدا يجمعهم مثل ميدان التحرير الذي يمثل صرة مصر إسماعيل باشا على غرار ميدان شارل ديغول في باريس. كانت الثورة في ميادين الخديو، في ميدان التحرير، الذي كان اسمه في السابق ميدان الإسماعيلية نسبة إلي الخديو إسماعيل. ميدان الإسماعيلية أو التحرير أصبح رمز الثورة ومعه ميدان القائد إبراهيم في الإسكندرية وسمي بهذا الاسم نسبة إلي إبراهيم باشا والد الخديو إسماعيل. كانت الثورة في الميادين الخديوية في مدن القناة في السويس والإسماعيلية التي أيضا سميت على اسم الخديو. تلك الميادين التي تسمح لتجمع حشود بمئات الآلاف في كل ربوع مصر هي كلها ميادين الخديو إسماعيل. تخطيط عمران الحرية وفكرة تخطيط المدن على غرار باريس والتي تكون فيها علاقة الحاكم بالمحكوم واضحة، حيث ترى الدولة المواطن ويرى المواطن الدولة؛ حيث الشوارع الواسعة والميادين التي تسمح بسيارات البوليس أن تصل إلي بيت المواطن على عكس شوارع الأحياء العشوائية في القاهرة مثل إمبابة والتي لا يصلح فيها إلا نظام المخبر الماشي على قدميه لأن السيارات لا يمكن أن تسير في هذه الشوارع الضيقة. معمار الخديو معمار احتفالية واحتجاجات في ميادين كبرى بينما معمار الديكتاتورية لا يسمح بميدان يتسع لدوران أكثر من سيارة واحدة فيه، ولا مكان للتجمعات فيه بطبيعة الحال لأن التجمعات ممنوعة بقانون الطوارئ وقوانين تخطيط مدن الديكتاتورية. الثورة عمرانيا كانت ثورة عمران إسماعيل باشا على الديكتاتورية فلولا ميادين الخديو لما كان هناك مكان واحد في مصر يسمح بمليونية أو حتى ألفية. الذي هزم مبارك لم يكن الـ"فيس بوك"، الذي هزم مبارك هو الخديو إسماعيل وتخطيط المعماري الفرنسي أوسمان.
تساءل الكثيرون وربما كنت أنا منهم في البداية: لماذا لم يشارك الصعيد في الثورة على الرغم من الظلم الواقع عليه وعلى الرغم من شجاعة رجاله ونسائه؟ كيف تخلف الصعيد عن الثورة؟ لم تكن هناك إجابات شافية لهذا السؤال، كانت هناك إجابات من نوعية أن أهل الصعيد لا يعنيهم أن قامت الثورة في القاهرة أو لم تقم قيامتها لأن الصعيد سيبقى مهملا في النهاية. جزء من هذا صحيح، ولكن من يتأمل في تخطيط الصعيد وعمرانه، يكتشف وببساطة أنه لا يوجد ميدان واحد في الصعيد يتسع لمليونية واحدة أو نصف مليونية أو حتى ألفية. فمعظم ميادين الصعيد لا يستطيع الوقوف بها أكثر من مئات ومعظمها مساحات مربوطة بالمساجد حيث يتسرب المصلون من الجوامع الصغيرة إلي الشوارع مفترشين الأرض للصلاة، ضاقت الأرض عليهم بما رحبت في الدين والدنيا، لا المساجد واسعة ولا ميادين هناك للتعبير عن الفرحة أو الغضب.
بالطبع هذا ليس مقالا وإنما أطروحة كتاب كامل عن علاقة العمران بالحرية.
لا يمكن للشعوب أن تكون حرة إلا بعمران حر وتخطيط مدن يسمح للناس بالتجمع والتجمهر احتفالا أو غضبا. وقد كتبت في السابق هنا عن الديمقراطية والبريد المتمثل في الشوارع الواسعة والبيوت التي تحمل أرقاما حيث يكون التواصل فيها بين الدولة والمواطن يسيرا، يرسل المواطن رسالته فتصل إلي صرة الحكم ويرسل الحاكم سيارته لجمع الضرائب أو ضبط وإحضار المخالفين بسيارات تمر في الشوارع الواسعة ولا يحتاج إلي عسس ومخبرين لأن الشوارع ليست حواري ضيقة. هذا النوع من العمران يدخل في إطار "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، أي كل مواطن يعاقب على جريمته لأن عنوانه واضح ومحل إقامته واضح. أما في إمبابة ومصر العشوائية فلم يكن أمام نظام مبارك عندما ظهر المتطرفون هناك، إلا أن يستخدم الحصار كوسيلة للعقاب الجماعي (collective punishment) لأن سيارات النظام لا تستطيع دخول هذه الحارات الضيقة. نظام العقاب الجماعي ونظام المخبر الذي يركب دراجة أو يمشي على قدميه هو النظام الحاكم، هو ضمن معمار لا مجال لحقوق الإنسان فيه؛ لأن الفرد في غابة في داخل الحي العشوائي لا عنوان له في غياهب جب سحيق.
الدولة لا تعرف طريق المواطن، ولا نعرف في هذا النوع من العمران من يتخفى مِن مَن؟ هل المواطن يتخفى من الدولة حتى لا يدفع الضرائب، أم أن الدولة تتهرب من مسؤولياتها تجاه المواطن؟ المهم في هذا كله أنه لا ميادين ولا عناوين هناك في إمبابة أو الصعيد كي يثور هؤلاء. الذي ثار على حكم العسكر هو عمران الخديو، ثار العمران الذي تكون فيه الحرية هي الأصل على عمران الديكتاتورية ومصر العشوائية.
كيف نفهم هذا في الوضع الجديد بعد الثورة؟ باعتقادي، ستبقى روح المعمار القائم على الحرية باقية في مصر، إلا إذا أغلق أهل الحكم الجدد الميادين وهذا أمر شبه مستحيل. الاتجاه في مصر على الرغم من كل شيء هو توسيع رئتي الوطن والقضاء على معمار العشوائيات والديكتاتورية ومعه فكر العشوائيات والديكتاتورية. الميادين المصرية الواسعة في العالم الحقيقي لا المساحات المتناهية في عالم النت الافتراضي، هي التي هدمت عمران الديكتاتورية وأسقطت نظام مبارك. ويبقى التحدي الأكبر، هل ستكون الثورة في مصر قادرة على إنتاج عمران يفتح رئتي الوطن بأكمله اقتداء بعمران إسماعيل باشا على الرغم من ستين عاما من عمران العشوائيات والديكتاتورية؟ هذا هو التحدي. فلا يستقيم للعقل أن ننشد الحرية في عمران الديكتاتورية. أعرف أنني أكتب في غير ما هو مألوف، ولكن ما معنى الكتابة إن لم تفتح آفاقا أخرى، وكانت مجرد إعادة إنتاج المألوف؟