يا ستّنا الثورة.. من أين لك هذا؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وسام سعادة
استقبل المنخرطون في عقد الربيع العربي مفهوم "الثورة" كأن شيئاً لم يكن. استقبلوه، كما لو أنهم غفلوا عن اعتماد الأنظمة التي ثاروا عليها لهذا المفهوم، كمصدر لشرعيتها "الثورية"، أي اللادستورية، وصفة لقياداتها، "الثورية"، أي الانقلابية، والدائمة، وأحياناً الوحشية .. وأحياناً المعتوهة، واسماً لصحفها الرسمية، وشبيبتها "الكموسمولية".
في الأنظمة الجمهورية المومياقراطية العربية كانت "الثورة" تعشش في كل مكان، وترتكب باسمها كل الفظائع والشرور. ومع ذلك، فاذا كان عدد من المفاهيم والمصطلحات والشعارات قد سحب من التداول، او اعتلاه الصدأ، في العقدين الأخيرين من عمر هذه الأنظمة، أو في زحمة الربيع العربي، فان مفهوم "الثورة" نفسه اكتسب شعبية جديدة، بوجه الأنظمة المومياقراطية التي حرصت على تقديم نفسها حتى الرمق الأخير كأنظمة بنت طبيعة ثورية، سواء أكانت "ثورية لايت" مثل "تحول السابع من نوفمبر" في أيّام زين العابدين بن علي، أو "ثورية الارث"، مثل نظام حسني مبارك المنبثق عن "ثورة" الضباط الاحرار، وكذلك النظام اليمني، أو "ثورية تنكرية" مثل نظام العقيد معمر القذافي، أو "ثورية كابوسية" مثل "البعث".
أساساً، لبنان هو الجمهورية العربية الوحيدة غير المنبثقة عن "ثورة على الطريقة العربية"، ولهذا السبب، ومهما كان حجم التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية وصولا الى الحرب الاهلية المديدة في تاريخ هذا البلد، فانه البلد الوحيد الذي يمكن ان يكتب له تاريخ دستوريّ بالحد الأدنى للكلمة.
في الغالب، يحرص أهل الربيع العربي على تقديم ما هم ينخرطون فيه، ويضحّون بحياتهم من أجله، بعشرات الآلاف من المواطنين الثائرين، في ليبيا وسوريا بالأخص، على انه "ثورة". وأحياناً يعمد الطاعنون بالربيع العربي الى مصطلحات من نوع آخر، تبدأ من "المؤامرة" فـ"الفوضى" لتصل الى "الانتفاضة" و"التمرّد"، وطبعاً يعرّجون على مفهوم "الحرب الاهلية" كما لو كان نقيضاً للثورة.
المضحك المبكي ان كثيراً من هؤلاء الطاعنين بالربيع العربي ينسبون ترهاتهم الى مصدر "ماركسي"، غافلين عن اختلاط معنى "الثورة" و"الحرب الاهلية" في كتابات الماركسيين الكلاسيكيين، وخصوصاً كارل ماركس (هل اطلع نفرٌ من هؤلاء على كتابه "الحرب الأهلية في فرنسا"، قاصداً بها كومونة باريس؟).
يمكن طبعاً نفي سمة "الثورة" عن فعل ممتد في الزمان والمكان ويسمّيه رواده كذلك. لكن ذلك لا دلالة واضحة له الا تبعاً للسياق الذي يندرج هذا النفي في اطاره. كثير من هذا النفي يعتمد على تصورات تعريفية للثورة تنتمي الى الايديولوجيا المعتمدة من قبل الأنظمة المومياقراطية نفسها. وطبعاً ثمة من ينكر على الثورات الربيعية تشبّهها بثورات المخمل الاوروبية الشرقية (الميدان زائد الاعلام لإسقاط النظام) أو بتخلّفها عنها (العسكرة والأسلمة). احترنا!
لكن ذلك، لا يعفي في المقابل من مبرّر، ومن الحاح التساؤل عن مفارقة كون ثورات الربيع العربي ثورات على أنظمة تقدّم نفسها كـ"ثورية".
فالسؤال هو: ما هي الضريبة التي تدفعها ثورات الربيع بمجرّد استبقائها للمفهوم نفسه الذي عاشت عليه الأنظمة المومياقراطية عقوداً طويلة ومريرة؟
الاجابة لا يمكن ان تكون مقنعة في سطر او سطرين. طبعاً اول الاجابة انّ عدم الفصل بشكل واضح بين الشرعية الثورية وبين الشرعية الدستورية يعطّل القدرة على السياسة، وان عدم نقد مفهوم الثورة يجعل من استخدامه اللانقدي مساعداً اضافياً على استبعاد مستلزمات اعادة بناء الدول، كما ان عدم نقد هذا المفهوم يجعله كما في القرن الماضي مرتعاً لشتى انواع التهويم والتبرير والتصنيم، خصوصاً ان الاستخدام غير النقدي وغير المتحفظ لمفهوم الثورة يفسح المجال للعبة المزايدة الثورية: التخوين والاستئثار وتراشق التهم داخل الصف الثوري نفسه بمشايعة الثورة المضادة.
ان كان للعام الجديد، الذي باشر أعماله للتو، ان يواصل الربيع العربي باندفاع حيويّ جديد، فمن المداخل اليه هو طرح السؤال من موقع الربيع على مفهوم الثورة: "يا ستّنا الثورة، من أين لك هذا؟"