سوريا: استثمار الفزع!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يوسف الديني
أصبحت كل أزمات المنطقة مرتبطة بشكل ما بمآلات الأزمة السورية، ربما لهذا السبب تحديدا أدرك الأسد ضرورة استثمار حالة "الفزع" التي يعيشها المجتمع الدولي تجاه سوريا، خلال مدة ساعة تقريبا حاول الأسد فيها أن يستخدم فيها كل طاقاته البلاغية في إيصال حقيقة لطالما بشر بها حتى قبل انفجار الأحداث في سوريا، وهي أنه يعتبر نفسه وحزبه سوريا دون الآخرين، بحيث لا يمكن أن تبقى سوريا كما كانت بعد رحيله، في تلميحات إلى قسر المزاج الدولي على تقبل "التقسيم"، أو التنازل عن رحيله، أو بقاء الأزمة في أتون حرب الشوارع وانتشار القتل المجاني بدم بارد.
في السياسة لا مجال للعاطفة أو التحليل المبني على معطى رمزي عادة ما يتم الحديث عنه بنرجسية بالغة، وهو الوطن العربي الكبير الذي تحول إلى أوطان مهددة بانقسامات صغيرة وهشة، واللافت في الموضوع أن رمزية "الوطن" غير المقسم وبطريقة عاطفية هي الحجة التي يرفعها أنصار بقاء النظام في سوريا مع الإصلاحات كضمانة بين تشكلات المجتمع المتنوعة، على اعتبار أن هؤلاء المبررين للقتل في سبيل الوحدة لا يرون في الأسد إلا صيغة غير دينية قابلة لفرض سيطرتها على الأرض بالكامل، ولا يهم بعد ذلك التفاصيل البعثية أو العلمانية، كما يحاول أن يلمع الأسد الآن باعتباره مفارقا لطغيان الميليشيات الدينية التي اجتمع فيها طوائف كثيرة؛ من "القاعدة" وحتى المقاتلون أبناء الحرب الطارئون ممن دفعتهم ظروف الإبادة الوحشية إلى اختيار السلاح، في ذات الوقت فإن جزءا من عجز المناصرين للثورة السورية يتبدى في القبول بالأمر الواقع على الأرض فيما يخص المعارضة التي كان لشتاتها وتفرقها وتباين أجندتها وعدم سيطرتها على بعض القوى المسلحة أكبر الأثر على بقاء الأوضاع على هذا النحو من التردي، وكل ذلك بسبب أنه لا أحد يفكر فيما تفرزه معطيات الأرض من سيناريوهات التقسيم التي يبدو أن تقييمنا لمزاج المجتمع الدولي تجاهه أيضا يحظى بكثير من العاطفة.
الأكيد أن سيناريو التقسيم يحاول بشار الأسد أن يجعله نتيجة وليس سببا لعدم ضمانة بقائه وعدم رحيله، وهو يحاول الاحتماء بالخارج عبر التهويل من خسائر المصالح الدولية الكبرى في سوريا، سواء لحلفائه الذين بدأوا أكثر من ذي قبل يشعرون بأنها حرب وجود أو عدم في المنطقة، كما أن إتاحة المجال لصحافيين غربيين لنقل تقارير عن أخطاء وانتهاكات تقوم بها بعض المجموعات المسلحة هو جزء من استثمار الفزع عبر تصوير الحالة على الأرض كعنف فوضوي لا يمكن السيطرة عليه، هذه الوصفة السحرية للتمهيد لحالة التقسيم يطرحها السوريون عبر آلة القتل والدم، لكن تقدمها لنا مشاهد سياسية عربية أخرى عبر الاستئثار السياسي والانفراد بالكعكة الذي بدا واضحا في الحالة العراقية والسودانية، وهي ليست إفراز ربيع عربي، وفي ذات الوقت تفرزه بنسب مختلفة حالة الربيع العربي كما هي الحال في تونس ومصر التي يتم استثمار وحدة البلاد فيها لصالح أجندة فصيل سياسي واحد.
المعطيات الجديدة التي أفرزتها لنا الأزمة السورية والتي لعب فيها صمت المجتمع الدولي وتباطؤه وتقاعسه عن طرح حلول جادة أو التفكير خارج صندوق المصالح الضيقة تبدو كارثية جدا، ويوما بعد يوم تزداد الفجوة بين الداخل السوري الذي يحكمه منطق القوة والغنيمة، وبين الخارج الذي يحاول استثمار التقدم على الأرض في سبيل أجندته السياسية، ومن هنا فإن الانفصال بين "الثوار" أو المقاتلين الفاعلين على الأرض، وبين من يتحدث باسمهم في الخارج، يبدو كبيرا في حالة قد تلقي بظلالها إذا ما رحل الأسد لسبب ما.
النظام السوري يهمه نفوذه وسلطته، على الأقل في القسم الشمالي من الساحل السوري وصولا لحمص التي تعتبر مع ريفها نقطة حاسمة جغرافيا، وهو الأمر الذي لا يمكن إلا أن ينعكس على لبنان، وبالتالي المنطقة معرضة لحالات من الانقسام اللانهائية، لكن ليس بفعل مؤامرات الغرب وإنما أخطاء فادحة من التيارات السياسية والأنظمة التي لا تفكر أبعد من أرنبة مصالحها.
هناك من يطرح الآن مشروع طائف سوري مشابه للطائف اللبناني الذي أخمد فتيل الحرب الأهلية، لكن تعايش الطوائف السورية تحت سقف دستور ينظم العلاقات بين كل الكتل لا يمكن أن يتم إلا بوجود برلمان تعددي قوي تكون الأغلبية فيه سنية وتتوزع الحصص على باقي الطوائف الصغيرة، لكن العوائق تبدأ ولا تنتهي بأن طائفا كهذا بحاجة إلى رعاية دولية توافقية، وهي غير موجودة، إضافة إلى تشكلات المجتمع السوري بسبب هيمنة حزب البعث لا تعرف هذا النوع من الفوارق بين مكونات المجتمع.
يقابل مشروع الطائف التقسيم، وهو لا يمكن إلا لثلاث دول على الأقل؛ سنية وعلوية وكردية، وهو ما يعني تفجير ملفات إقليمية مع تركيا التي يستحيل أن تقبل بسيناريو كهذا، وبالتالي فإن جزءا من ارتباك المشهد السوري وبقائه معلقا ليس فقط راجعا لمعطيات الأرض، وإنما إلى ارتباك الأطراف الإقليمية حيال سيناريوهات الحل بعد إيمانها أن لحظات الحسم قد حانت.
الحالة السورية الآن تعيش مرحلة "ترتيب الكراسي"، فالنظام يريد أن يكون طرفا في الحل، لكنه يريد أيضا أن يجلس بجانبه معارضة لا يعرفها الشارع ولا تؤثر فيه، ومن ثم يتم حصار كل الثورة السورية في مجموعة من المقاتلين الخارجين عن القانون من التكفيريين والقاعديين الذين تقول روسيا إن ثمة احتمالية كبيرة لأن يستولوا على الأسلحة الكيماوية، وبالتالي حتى الروس يقلدون الأسد في استثمار الفزع وإعادة بيعه للمجتمع الدولي كغطاء لاستمرار حالة الصمت.
الأسد رغم بلادة خطابه وتكراره وعنجهيته أدرك أن الجميع يستثمر في عامل الوقت، وأن عاما سوريا جديدا يتم الترقب بشأنه، ليس من قبل السوريين وإنما العالم والمجتمع الدولي، وهو يحاول تسويق رؤيته للحل بالتزامن مع أطروحات إيران التي تتضمن انتخابات نيابية ورئاسية يترشح الأسد فيها مع الآخرين، وبالتالي يراهن على قدرة البعث الطويلة في كسب الأصوات وإزهاقها أيضا، وحين يفوز في انتخابات ستبدو نزيهة لن يجرؤ أحد على الاعتراض، فأحد مكاسب الأسد وأمثاله العميقة من تجربة الربيع العربي هو أن القيم السياسية والإنسانية اكتسبت شكلا آخر، فالديمقراطية يمكن أن تفرز سلطة الحزب الواحد، وأن التعددية يكفي أن تكون شعارا براقا أو جدلا بيزنطيا على قنوات الإعلام لا يؤثر على الواقع، واحترام القضاء واستقلاليته يمكن القفز عليه بالتطهير، وبالطبع لا يهم الاقتصاد مهما انحدر، فالثورات أخذت وقتا طويلا لكي تتعافى.
الأكيد أن هذا عام الحسم للأزمة السورية، لكنه أيضا سيكون عام انهيار القيم وإعادة تشكل للمفاهيم السياسية وإن ظلت مسمياتها.