من يدفع طرابلس إلى حال "السورنة"؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ابراهيم بيرم
لا تكتم قيادات من "حزب الله" وحركة "أمل" مخاوف تتملكها منذ زمن بعيد ومفادها ان هناك من يعمل عن سابق قصد وتصميم لـ"سورنة" الوضع في طرابلس بكل ما ينطوي عليه هذا المصطلح من ابعاد ودلالات.
جذور هذه المخاوف قديمة وتعود الى أولى جولات العنف الثماني عشرة التي وضعت المدينة تحت وطأتها منذ أن اشتعل فتيل الاحداث في الساحة السورية القريبة جداً من عاصمة الشمال.
مشهد ما حصل في حادث باص الملولة بعد ظهر السبت الماضي، أيقظ هذه المخاوف مجدداً، وخصوصاً أنه يتماهى مع ما يحصل في سوريا لجهة اعتراض العابرين والتنكيل بهم على الهوية المذهبية وغير المذهبية.
وثمة مظاهر أخرى كمثل اطلاق الرصاص على عناصر الجيش اللبناني وهم يعبرون في الشوارع، وهناك ايضاً عمليات تحدٍ مستمرة لأفراد هذه المؤسسة تصل في غالب الاحيان الى حد الإذلال والامتهان، الى حد جعلها شاهدة زور أو محدودة القدرة على الفعل والتأثير والحسم ساعة يحتاج الوضع الى ذلك.
أيضاً وايضاً هناك جهد يكاد يكون منظماً وممنهجاً لاستباحة كل من له صلة بسلطة الدولة ومؤسساتها ونشر ثقافة الكراهية لهذه الدولة عبر محاصرتها بتهمة "العجز" مما يبيح إما تبرير دفاعات ذاتية واضفاء الشرعية على مقاتلي المحاور وقادتها، وإما التلويح بالاستنجاد بالمجموعات المتشددة.
بوادر هذا المشهدالطرابلسي، في رأي أي مراقب، ليست جديدة على الاطلاق، فهي قرينة وآية كل جولات العنف والفلتان التي ضربت رياحها عاصمة الشمال وامتدت في أحيان كثيرة الى دائرة أوسع، لكن اللافت ان الامور أخذت في الايام القليلة الماضية مناحي وأشكالاً أكثر تصعيداً وتعقيداً، فقد بدا جلياً وكأن الكل "متواطئ" ضمناً على ابقاء الاوضاع على هذه الدرجة العالية من الحماوة والسخونة والتوتير، وثمة أمر عمليات غير مرئي، غايته القصوى إبطال فعالية أي محاولات للتهدئة واعادة الامور الى حالها من الهدوء، الى درجة ان أكثر من 3 خطط أمنية توصلت اليها قيادة الجيش سرعان ما برزت وقائع واحداث ميدانية محدودة الحجم ولكنها كافية لتكون ايذاناً بفرط عقد هذه الخطط وبالتالي ابقاء الامور في دائرة الشحن والاحتقان والفلتان، حتى ان رموزاً اساسية من رموز المدينة المحسوبة على تيار "المستقبل" هي نفسها رفعت عقيرتها بالشكوى من عقبات تطرأ في اللحظة الاخيرة وتبدد جهود التسويات المضنية والتي احتاجت الى جهود امتدت من طرابلس الى قصر بعبدا. ولم يكن اعتراض العابرين وخطفهم على الهوية والتنكيل بهم وتعميم صور التنكيل على وسائل التواصل عن سابق عمد وتصميم هي ذروة التصعيد والتخريب الرامي الى ابقاء المحاور والنفوس مشتعلة والبنادق صاحية، بل شاعت في الايام القليلة الماضية "ثقافات" وخطب تنطوي على ابعاد غير مألوفة في مجال الشحن والتعبئة والتحريض واستدعاء ردود الفعل كمثل التلويح باستدعاء قوى التطرف لتولي الدفاع عن أهل السنّة، فضلاً عن الدعوات لاقتحام جبل محسن، وأبعد من ذلك ثمة من استهوته عملية الربط غير المعروف المصدر بين ما يحصل في طرابلس واقتحام جبل محسن وبين امكان فتح معركة القلمون الواقعة في ريف دمشق، وبالتحديد في المنطقة الجبلية المتاخمة تماماً للحدود اللبنانية التي تضم بين جنباتها بلدات وقرى صنفت منذ فترة في خانة الرافد الاساسي للمجموعات المعارضة في الساحة السورية.
وسواء كان هذا الاعتقاد دقيقاً أم لا، فالواضح ان القرار الحاضر هو أن تبقى عجلة التوتر والقلق تحاصر طرابلس وتبقيها في منسوب عال من الاستنفار والجهوز والاستعداد لفعل ما أو تطور دراماتيكي معين.
ومما يعزز هذه المناخات المفتوحة على احتمالات سلبية وقائع عدة أبرزها:
- ان القيادات الأمنية المعنية تقر اولاً بأن في الخطة الأمنية الأخيرة التي نفذت بشق النفس ثغراً كبرى كمثل ابقاء احياء طرابلسية على خط التماس خالية من اي وجود عسكري قادر على الضبط والربط، وليس في مقدورها ثانياً القول كما في مرات سابقة ان بامكانها حسم الأمور وضرب المخلين والمعرقلين.
- ان "المرجعيات" السياسية الطرابلسية وفي مقدمها رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي وحتى رموز تيار "المستقبل"تبدو في حال ارباك وتردد اقرب منه الى اعلان العجز ورفع رايات اليأس والقنوط، وبالتالي ليس في مقدورها اعطاء اية تعهدات او وعود لقاطني المدينة تطمئنهم.
- ان الذين نصّبوا انفسهم بدائل من الرموز السياسية المعروفة في المدينة وزعموا ان الامرة صارت لهم ذهبوا بعيداً في سقف شروطهم وفي تعهداتهم على نحو صعّبوا امر العودة الى الوراء والتراجع من جهة واحرجوا هذه الرموز من جهة اخرى، مما يعني انهم جعلوا ابواب الفتنة قابلة للانفتاح ساعة يشاؤون خصوصاً وقد طرحوا فكرة حل "الحزب العربي الديموقراطي" قبل صدور اي حكم قضائي بحقه في التهم المنسوبة اليه.
لا شك في ان كثراً اراحهم تعليق رئيس مجلس النواب نبيه بري على حادث باص الملولة وردود الفعل المضبوطة عليه والتي حالت دون اي فتنة، وهو تعليق اكد فيه انه لا يزال عند رأيه بأن الفتنة لن تحصل، لافتاً الى ان "طريقة التعامل مع ما جرى في باب التبانة أثبتت صحة ما سبق لي أن قلته وهو أن هناك قراراً اكبر من جميع اللبنانيين بعدم العودة الى الحرب الاهلية".
لكن ذلك على بلاغته وأهميته لا ينفي جملة احتمالات سلبية ما زالت تلقي بظلالها الثقيلة الوطأة على طرابلس والشمال عموماً، وفي مقدمها ان الوضع الراهن هو تلويح دائم بوقوع الفتنة، وربما كانت مفاعيله النفسية وتأثيراته المعنوية اشد مضاضة من الفتنة نفسها في معظم الاحيان.
وثمة أمر آخر سبق لبري نفسه ان لمح اليه في محطات متعددة وفحواه ان الانسداد السياسي يكون دائما وصفة جاهزة للفلتان الأمني لأن الطبيعة السياسية تكره الفراغ، ولأنه لا بد ان يبرز فجأة من يملأ الفراغ السياسي بالتوتير الأمني المناسب.
ولقد اثبتت التجارب ان طرابلس خير مصداق لهذا الاستنتاج، فهي الجالسة دائما على قارعة الجهوز لتكون مشروع الفتنة كلما انسد الأفق السياسي، فكيف وقد عادت الأمور السياسية بين طرفي النزاع في لبنان اخيراً الى مرحلة من التصعيد خال الجميع انها انطوت.