جريدة الجرائد

العالم العربي بين ثورة الأحلام ومعطيات الواقع

-
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد بن علي المحمود

يسترخي العالم العربي على أريكة الأحلام الناعمة التي صنعتها أوهام الثورة أو ثورة الأوهام، متجاهلا حقيقة الواقع الذي يتموضع فيه، بالقدر الذي يتجاهل فيه حقيقة الواقع الذي ينتظره على بوابة المستقبل القريب. هذ العالم المسحور يغرق بجهله في متاهة أحلامه التي تتخلق في وعيه واقعا أشد صلادة وصلابة من الواقع؛ فيبني عليها طرائق الأوهام التي سيسير عليها لعشرات السنين، دون أن يتوقف متسائلا عن المسافة التي تفصل عالمه الوهمي الجميل عن واقعه الحقيقي المأساوي الذي يحكم - أو يفترض أنه يحكم - مسيرة الأحلام.

الواقع هو ما يحكم الحلم وليس العكس. وأنا عندما أتحدث عن الواقع هنا، الواقع الإنساني العربي، فإنني لا أتحدث عن واقع الأنظمة والقوانين وهياكل المؤسسات الضابطة والموجهة، بل ولا عن واقع الإمكانات المادية وما يحيل إليه الموقع الجغرافي فحسب، وإنما أتحدث - إضافة إلى كل ذلك - عن واقع الإنسان، واقعه الداخلي، واقعه الذي يحتل فيه (وعيه) أهم عوامل التأثير، وهو الواقع / الوعي الذي لا ينفصل عن التاريخ كصيرورة، ولا عن طبيعة الوعي بهذا التاريخ.


كانت مشكلة العربي في موجة الاحتجاجات أنه كان يتوهم أنه قادر على التغيير لمجرد أنه قادر على الغضب. كان يرسم أحلامه بحدود طاقة غضبه، ويعتقد أنه كلما ازداد غضبا؛ ازداد قدرة على التغيير، وربما على التطوير النوعي

من هنا يتضح أن معطيات الواقع - التي لا يمكن رسم ملامح الأحلام إلا على حدودها - هي أكبر من معطيات الواقع المادي. فعندما تحلم، أو تفتح الباب لتراودك الأحلام الممكنة، لا تستقبل الأحلام في فضاء معزول، لا بد أن تضع معطيات الواقع الذي يتلبسك في الحسبان. لا بد أن تعي مستوى تطور الوعي (ليس الوعي الفردي الجزئي الذي لا يصنع أكثر من واقعة فردية، وإنما الوعي العام الكلي الذي يصنع المتغيرات الكبرى)، وتناسبه مع سقف الأحلام. وهو (= تطور الوعي) مرتبط بما هو أكبر من مخرجات التعليم، ومستويات الأمية، مرتبط بتجاوز هذا إلى حيث الثقافة - بمفهومها الأوسع -، وما ترسمه من معالم وأنساق قادرة على إعادة خلق الإنسان من جديد.

إذن، الوعي أو العقل الجمعي وإن لم يكن واقعا متعينا، هو واقع إمكاني، أقوى وأبعد أثرا من كل معطيات الواقع المتعين، بحيث لا يمكن تجاهله عند الحديث عن معطيات الواقع التي تفرض نفسها على مسيرة الأحلام. ويتفرع عنه واقع الأعراف والتقاليد والآداب المنظمة للسلوك العام، وما يتقاطع معها من القيم التي تُسهم في بلورتها عمليات الإرشاد الديني. وبعد ذلك يأتي الواقع المتعين: واقع الفضاء الجغرافي بما يحمله من إمكانات، وواقع الثروات الفعلية أو ذات القابلية للاستثمار، وواقع النظام السياسي والقانوني، وواقع المؤسسات الحاكمة بشكل مباشر أو غير مباشر، وواقع التحولات الديمغرافية التي كانت ولا تزال أكبر معوقات التطوير في العالم العربي.

يقول الثّوار، أو من يتوهمون أنفسهم ثُوّارا: إننا بالثورة نستطيع تغيير كل ذلك أو معظمه، فبالثورة نُغيّر نظام الوعي، وبالثورة نعيد تحديد الأعراف والتقاليد، وبالثورة نستثمر معطيات الواقع الجغرافي إلى أقصى حد، وبالثورة نبني مؤسسات جديدة على أنقاض المؤسسات القديمة القائمة بالفعل، وبالثورة نحوّل النمو الديمغرافي من عامل سلبي معيق للتنمية إلى عامل إيجابي داعم... إلخ ما يقولون.

لكن، تبقى الحقيقة الصامدة والحاكمة على مثل هذا القول، والتي تؤكد أن هذا الوعد الثوري هو جزء من الحلم المستحيل. هم يفترضون القدرة على التغيير انطلاقا من مجرد حلم، انطلاقا من موجة غضب تحتكم إلى المسار العاطفي أكثر مما تنتمي إلى المسار العقلي. هم يفترضون أن التغيير يحدث بالضرورة لأنهم يريدون أو يتمنون ذلك، وليس لأن شروط الواقع تسمح بذلك أو لا تسمح. فالثورة ذاتها لا تتحقق أصلا(من حيث هي ثورة، أي تغير في مكونات الوعي الاجتماعي العام) إلا عندما يوجد المتغير الواقعي الذي يحفز إليها؛ حتى تصل إلى مستوى التفاعل الجدلي بين ما يتحقق في الواقع وما يتحقق في نظام الوعي.

إن تجاهل هذه الحقيقة الواضحة والراسخة بعمق قوانين التحوّل التاريخي، هو سبب كل هذه الإحباطات التي رافقت التراجع الحاد في موجات الغضب التي اجتاحت العالم العربي منذ ثلاث سنوات تقريبا، بحيث رضي معظم الغاضبين من الغنيمة بالإياب!

اقرأ المشهد في مصر وتونس وليبيا وسورية واليمن، أي في الأقطار التي كان الاحتجاج فيها عاصفا إلى درجة إسقاط النظام الحاكم، أو - في أقل الأحوال - زعزعته من مواقعه. قراءة المشهد بعد كل هذه التجاذبات التي وصلت حد الصراع الدموي حتى بين رفقاء الغضب الاحتجاجي تصيب أشد الناس تفاؤلا بالإحباط الشديد. وهو إحباط لم يكن ليحدث لو أن الحالمين رسموا أحلامهم على حدود معطيات الواقع، لو أنهم رسموا ملامح الوعي العام، وتفحّصوا الإمكانات الواقعية، ولم يتجاهلوا مراكز القوى التي تتحكم في مفاصل السلطة الحقيقية التي مردت على المكر، ولن تسمح - مهما كان الثمن - بأن تُزاح عن مواقعها التي توارثتها منذ عشرات السنين.

كانت مشكلة العربي في موجة الاحتجاجات أنه كان يتوهم أنه قادر على التغيير لمجرد أنه قادر على الغضب. كان يرسم أحلامه بحدود طاقة غضبه، ويعتقد أنه كلما ازداد غضبا؛ ازداد قدرة على التغيير، وربما على التطوير النوعي. ونسي أنه لو كان قادرا أن يهدم بغضبه أعتى مؤسسات القوة الخشنة، فلن يكون قادرا على أن يبني بهذا الغضب بدائل متطورة، تتجاوزها في القدرة على الضبط، وفي القدرة على التعامل مع جماهير لم تتغير طبيعتها بعد، جماهير ما زالت تتلقى مفاعيل قوة الضبط على إيقاع ضربات المرحلة السابقة. ما يعني أن تغيير أجهزة التلقي الجماهيرية لم تكن مستعدة للتعامل مع فضاء الحرية الموعود، كما لم تكن مستعدة للتعامل مع نظام ضبط مغاير قد ترى في انضباطه الإنساني ضعفا يدفع للاختراق لا للاحترام.

انظر كيف تتبعثر الأوراق السياسية في تونس (وهي الأشد استعدادا للتحول النوعي من بين كل دول الربيع) إلى درجة العبث، بل إلى درجة الوقوف على شفير الهاوية السياسية. لم تستطع النخب السياسية، فضلا عن القواعد الجماهيرية، أن تصل إلى خطاب توافقي ولو على المشتركات العامة التي ترسم حدود هوية الوطن الجديد المأمول. وبهذا تحوّل الواقع من سيىء إلى أسوأ في مدى ثلاثة أعوام من الأحلام المجهضة بقوة معطيات الواقع (ومنه واقع الوعي، وعي النخبة، ووعي الجماهير)، لا بقوة التآمر الذي يحيل إليه كل الفاشلين في تحقيق ما وعدوا به الجماهير.

في مصر، ولأسباب كثيرة، الوضع أسوأ بكثير؛ لأن المسافة بين الحلم والواقع كانت كبيرة في مصر، أكثر مما هي في أي بلد عربي آخر. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الشعارات كانت - ولا تزال - تفعل في مصر أكثر مما تفعله في أي بلد عربي آخر؛ أدركنا حجم الكارثة التي تسرّب فيضانها من الواقع إلى أعماق الأنفس التي باتت مليئة باليأس والقنوط. فالشعارات في مصر يتم تمثلها كحقائق بمجرد الهتاف بها، ويعتقد كثيرون أنها تحققت بمجرد أن ترفع يافطاتها في أروقة المؤتمرات الشعبية، أو على قارعة الطريق، أو ترافق هذه التظاهرة أو تلك، إلى درجة أن كثيرين توهموا أن الكلام هو عين الفعل، وأن ما أنجز على مستوى القول فهو منجز - بالضرورة - على مستوى العمل. وعندما يصطدم الناس بحقيقة أن لا شيء أنجز مقارنة بما قيل، وأن الواقع كما هو، بل وربما أسوأ، يشتمون الواقع المستعصي، وكأنما خانهم هذا الواقع أو غدر بهم، يشتمونه من منطلق فرضيات الحلم الذي صنعته الشعارات الجوفاء.

لم يتبصّر الحالمون إبان فوران موجات الغضب بحقيقة الواقع المصري، لم يأخذوا حقيقة النمو الديمغرافي الذي يناهز الآن تسعين مليون نسمة بعين الاعتبار، بل تلاعبوا به في ساعة فخر أعمى، معتقدين أنه رقم يدعم معدلات القوة، القوة التنموية التي لم يعد حتى أشد الناس جهلا يستطيع أن يحيلها إلى الزيادة العشوائية في أعداد السكان. وكما لم يأخذوا هذه الحقيقة السكانية في الاعتبار، لم يأخذوا الحقيقة التي تتقاطع معها، والتي تؤكد أن أكثر 42% من هذه الملايين المتناسلة تُعاني من الأمية الكاملة التي لا يستطيع أفرادها قراءة كلمة واحدة، وأن نسبة الأمية بين النساء في الأرياف (وهم معظم الشعب المصري) تجاوزت 80%، فضلا عن تردي التعليم العام، وتردي التعليم العالي، إلى درجة أن كثيرا من المنتمين إلى جامعة القاهرة، والمعتدين بتاريخها العريق، ندبوا حظها العاثر عند الاحتفال بمرور مئة عام على إنشائها قبل أربع سنوات.

هذه حقيقة واحدة، من بين حقائق أخرى واقعية تجاهلها الحالمون، وراهنوا على موجات الغضب، وعلى ارتفاع معدلات الرفض، لا على معطيات الوعي المتحوّل، ولا على معطيات الواقع الفعلي. تجاهلوا أن الوعي لم يتقدم خطوة واحدة من أكثر من نصف قرن، تجاهلوا القوى النافذة التي يصعب تغيير طبيعة عملها، فضلا عن تغييرها، فضلا عن اجتثاثها وإحلال البدائل الجديدة مكانها. وكانت النتيجة أن موجات الغضب تبخرت سريعا، ولم يبق منها إلا رمادها الذي تذروه الرياح، وبقيت معطيات الواقع تفرض نفسها بقوة، تفرض نفسها بكل ما يتبعها من مآس، وبكل ما تبعثه من غضب خافت بين الحين والآخر، حتى تم ترميز الغضب ذاته؛ ليصبح غضبا عابرا يُذكرنا أن موجة غضب هادرة مرت من هنا ذات يوم، ولكنها لم تكن أكثر من صرخة ألم في واد سحيق لا يستجيب بغير رجع الصدى الساخر في معظم الأحيان.

حتى أحلام الديمقراطية التي لا أساس لها في تاريخنا القريب، فضلا عن تاريخنا البعيد، كان الغاضبون الحالمون يصلون بها - تحليقا في عالم الأحلام - إلى مستويات الواقع الغربي، متناسين أن خيارات الناس التي سيعكسها الصندوق الاقتراعي الانتخابي (وهو الآلية الديمقراطية المباشرة التي يتعاطى معها المواطن أولا) لن تكون خيارات ديمقراطية، أي لن يختاروا أولئك المتناسلين فكريا من سلالة الوعي الديمقراطي، وإنما سيكونون على الضد من ذلك، ستكون خياراتهم تقليدية سلفية، تكفر بالديمقراطية من حيث هي تمارسها في الواقع المليء بكل المكونات الفاعلة التي تستعصي على العمل الديمقراطي.

هذا هو المشهد في مصر وتونس، وهو يحكي انتكاسات الحلم الجميل الذي كانت الرغبات تصنعه بعيدا عن إمكانات الواقع. أما في ليبيا وسورية فالمشهد يحكي عن مأساويته لا بالتردي الأمني والاقتصادي والتنظيمي، وإنما بالأشلاء والدماء التي يتم دفعها في حلبة الصراع على السلطة، وربما على الترسيخ لواقع استبدادي يحلم به الفرقاء على اختلافهم، خاصة بعد أن بدا الحلم الديمقراطي وَهْما في مصر وتونس، فأصبح الإنسان العربي في كل مكان من أقطار هذا العالم العربي البائس يعيش في حلقة مفرغة من القهر والاستبداد وتطبيع الفساد، وصولا إلى دورة القهر والقهر المضاد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف